العدد 1342 / 19-12-2018

كيف مرّ واحد وثلاثون عاماً، على ذكريات لم تبرحك، لأنها كانت تعني لك شيئاً عظيماً ومهماً، أحببتها وحضنتها، لأنها كانت تعني كلمة واحدة هي الوطن، فالانتفاضة هي الوطن وكلمة الوطن، وانتفاضة الحجارة لا يمكن أن تبقى ذكرى، لأنها شكّلت شخصيتي وشخصية أبناء جيلي، فقد كنت ابنة ستة عشر عاما، حين انطلقت شرارتها الأولى في العام 1987.

لا يمكن أن تكون ذكرى كما قلت؛ لأنها لم تكن يوماً واحداً، لكنها كانت سنوات مرتبة ومنظمة، وكنا نتابع أحداثها ونحن نكبر، ولأنها بدأت في شهر كانون الأول، فقد كان لهذا الشهر، وهو الشهر الذي ينضج فيه العام، مكانة خاصة لدينا نحن الفلسطينيين، فنحتفل فيه كل عام بانتصار الانتفاضة واستمراريتها. وعلى الرغم من الخلاف حولها؛ إن كانت عفوية مرتبطة بحادثة معينة، أو أنها جاءت بعد تخطيط، إلا أنها كانت الحدث الأكبر في حياة أبناء جيلي الذين سمعوا عن بلاد ما قبل النكبة، ولم يعيشوا فيها، وعاشوا اللجوء في غزة خصوصاً، وهم يحلمون بالعودة إلى بلاد رسموها في مخيلتهم.

استطاعت سنوات الانتفاضة الفلسطينية أن تهندس حياتنا، إن صح التعبير، وكانت الجدران وسيلة التواصل مع القيادة الموحدة للانتفاضة، كما يطلق عليها، فجدران البيوت والمحال والمساجد كانت مثل وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الوقت، ولكن لم يكن هناك مجالٌ للغش والتشويش والمزايدة على القرارات، فالقرارات واضحةٌ، والجميع ينفذ بحس وطني عال، رفعته إلى السماء تضحيات كل فئات الشعب , من الغني إلى الفقير، ومن الصغير إلى العجوز.

في سنوات الانتفاضة، كنا نعيش حالة من الغليان، الكل يمشي في الشارع إلى مبتغاه، ولكن القلوب كانت تتابع أعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين الذين كانوا يلتقطون من الطرقات، وكنا نعيش همّ كل بيت، وهمّ كل أم , ولم يكن الفرح يطرق باباً إلا على استحياء، احتراماﹰ للحزن والدم، ولم تندم عروس في زمن الانتفاضة لأنها قد زفت إلى بيت عريسها من دون فستان زفاف أبيض، بل كانت تفتخر بأنها تزوجت في هذه السنوات التي كان فيها الهم الفلسطيني هو النضال، وغير ذلك مكملات أو كماليات.

لا يمكن أن ينسى التاريخ أن يسطر بسطور من ذهب عن انتفاضة الحجارة، حيث كان السلاح الأول فيها حجارة الأطفال، وكان التماسك الشعبي والتلاحم الحقيقي بين أبناء الشعب الفلسطيني أكثر قوةً من صلابة الحجر، فانحنى العالم إجلالاً وإكباراً أمام الحجر ورفيقه المقلاع.

ظهر دور المرأة الفلسطينية في الانتفاضة، وساهمت بدورها الفعال لإنجاح التعليم الشعبي في البيوت، بعد إغلاق المدارس شهورا، وساهمت في الاقتصاد المنزلي، ولم تتوقف عن مناصرة الفتيان والشباب؛ فكل بيتٍ يلجأ إليه فتى يجد أماً في انتظاره، وأمام كل متراسٍ كانت هناك امرأة تحمل دلوا مليئا بالحجارة التي تنبت، لتصبح باروداﹰ بيد من يتلقفها منها.

سنوات ست هي عمر انتفاضة الحجارة , صنعت بداخلنا الانتماء، أشعلت باروداً لم ينطفئ، ولم يخبُ في قلوبنا، هو بارود فلسطين الواحدة التي لهثنا باسمها، وحفرت بداخلنا تجربة نضالية لن تتكرّر وتعلمنا فيها الدروس، وعلمناها لأولادنا، واستبدلنا بحكايات الخيال عن الغول حكايات البطولة الحقيقية عن ابن الجيران الذي طارده جيش بأكمله، وعن بنت الجيران التي عاشت على حب زوجها الشهيد حتى آخر عمرها، وقدمت ابنها الوحيد شهيداﹰ مثل أبيه.

أي شعور يمكن أن يصف ما عشناه وما زرع داخلنا؟ وأي حظ لحق بأبناء الجيل الذي عاصر هذه السنوات، ووعيه لا يزال يتفتح؟ فصقلت جدرانه بأحداث ملحمة كفاحية مميزة، لا يمكن أن تطوى، مهما مرت به من أحداثٍ مؤسفة، فالصورة الأولى جميلة، وغير ذلك من الصور ليس لها أصل أو أساس.

سلامٌ لأيام كان جدي العظيم , الرجل الأميّ يجلس ليتابع أخبار الانتفاضة من مذياعه القديم، ويجود بكل ما في جيبه لمن حوله، حين يبلغه نبأ سارّ عن فتيانها، وتلتمع عيناه ببريق يحمل معنى واحداً ولا ينسى، وهو أن فلسطين لن تضيع.

سما حسن