العدد 1579 /13-9-2023

د. عصام تليمة

أشرنا في مقالنا السابق إلى الارتباط الوثيق بين التربية والفتوى، من خلال استقراء النصوص القرآنية التي تعالج فتاوى أو أسئلة، سواء الآيات التي بدأت بقوله تعالى: (يستفتونك) أو: (يسألونك)، أو في فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم التي أوردتها السنة المطهرة، ولكننا لاحظنا، في مراحل تالية لجيل التابعين والسلف، أن الكتابات الفقهية جاءت جافة، خالية من البعد التربوي والروحي.

ورغم بعض المحاولات التي جرت في كتب الفتاوى أو الفقه، لردم هذه الفجوة بين العلمين: الفتوى والتربية، والفقه والتربية، فإن المسار الأوضح كان الفصل بينهما، لأسباب سنعرض في مقالنا لأهمها، ونعرض كذلك للمحاولات التي شهدها تراثنا الفقهي لعودة الوصل بين الفتوى والتربية.

الأسباب الثلاثة

أولا: استحضار التربية في ضمير المفتي

لعل من الأسباب التي يعذر فيها الفقهاء الذين خلت كتبهم في الفتاوى، من الجانب التربوي، أنهم ربما استحضروها في أذهانهم، وتوقعوا حضورها لدى السائل، فإن الدافع بلا شك لذهاب المستفتي للاستفتاء هو دافع تربوي، حيث الخوف من الوقوع في الحرام، والبحث عن الحلال الطيب، أو مخافة أن يفعل شيئا يخالف شرع الله، فينتج عن ذلك حبوط العمل، سواء أكان ذلك في عبادته أو معاملاته.

لكن هذا المعنى إن استبطنه المفتي في حالات بعينها، فربما يغيب في حالات أخرى، وعقليات أخرى لدى ممارسي الإفتاء، حيث تحول الإفتاء إلى ما يشبه الإجابة القانونية على الأسئلة والتي تخلو من الأبعاد الأخرى؛ الأخلاقية والتربوية، رغم أن حضور هذا المعنى التربوي، في الفتوى نفسها، هو محفز شديد الأهمية، لأنه سيربط الفتوى وتنفيذها والعمل بمقتضاها بالهدف التربوي في التشريع الإسلامي.

وقع الفصل بين فقه الجوارح وفقه القلوب، فرأينا كتب الفقه والفتوى تكتب بلغة جافة، لا تخاطب الروح. في حين تسبح كتب الوعظ في الخيال، وربما فيما لا يعقل، واحتوت على كلام ربما يناقض الأحكام الفقهية

ثانيا: غلبة معنى الفقه الاصطلاحي على القرآني

ومن الأسباب، التي نراها وراء ذلك الفصل، أن الفقه بدأ يعرف وينتشر ويدرس، ويكتب فيه بالمعنى الاصطلاحي للفقه وليس المعنى القرآني للفقه، فالمعنى الاصطلاحي هو: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية)، بينما هو -بالمعنى القرآني- جامع لذلك وزيادة، فهو كما قال شيخنا يوسف القرضاوي: (يتعلق بالفهم لآيات الله في الآفاق والأنفس، والتأمل في سنن الله في الكون والاجتماع، في ضوء شواهد التاريخ، ودلائل الواقع، ومعرفة أسرار الله في خلقه، ومقاصده في شرعه).

وقد بنى القرضاوي فهمه ذلك على ما سطره أبو حامد الغزالي مستنكرا تغيير لفظ الفقه بمعناه القرآني الواسع، إلى المعنى الضيق، إذ كان "الفقه" في العصر الإسلامي الأول يطلق على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، كما دل على ذلك قوله عز وجل: (.. ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم..) التوبة: 122. ويوضح الغزالي العلاقة بين الفتوى والفقه بالمعنى القرآني فيقول: "ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستتباع؛ فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر".

ثالثا: الفصل بين فقه الجوارح والقلوب

واستتبع ما حدث من غلبة المعنى الاصطلاحي للفقه، فصل العلوم عن بعضها البعض، رغم أنها بالأساس متكاملة لا منفصلة، وإن كان غرض بعض من فصلوها هو التوسع والتعمق، وليس جعلها جزرا منعزلة.

من ذلك فصل الفقه عن الحديث، إذ رأينا بعض كتب الفقه والفتوى يقل فيها الاستدلال، وإذا استدل بالأحاديث فلا يعنى المفتي أو الفقيه بصحة الأسانيد.

ومع هذا التوجه، وقع الفصل بين فقه الجوارح وفقه القلوب، فرأينا كتب الفقه والفتوى تكتب بلغة جافة، لا تخاطب الروح. في حين تسبح كتب الوعظ في الخيال، وربما فيما لا يعقل، واحتوت على كلام ربما يناقض الأحكام الفقهية، وهكذا جار كل علم على الآخر، بعد أن توقف الربط والتكامل بينهما.

الغزالي ومحاولة استرداد الفقه بمعناه القرآني

أولى المحاولات التي جرت في استعادة الفقه والفتوى بمعناها القرآني، أي ربط التشريع بالتربية، وبما يخدمه من علوم أخرى، كانت من الإمام أبي حامد الغزالي، في كتابه "إحياء علوم الدين". وقد نبه في مقدمة الكتاب على هذه المسألة، وأسهب وفصّل، وحشد الآيات والأحاديث النبوية التي تبرهن على هذا المعنى الصحيح للفقه والفتوى، وعلى أهمية الربط بين الفتوى والتربية.

والكتاب معني من بدايته بالحديث عن القلوب، وما يصيبها من أدواء (سماها: المهلكات)، وما تتداوى به (وسماها: المنجيات)، وقبل ذلك عرض للعبادات والمعاملات، بنفس النهج، جامعا بين الحديث عن التشريع في إطار أسراره وحكمه، وما ينبغي للمسلم استحضاره عند ممارسة التشريع سواء في عبادته لربه، من طهارة وصلاة وصوم وزكاة وحج، أو عند ممارسة المعاملات، من البيع والشراء والنكاح، وغيره.

محاولة الشعراني ربط الفقه بالتربية

ولكن الكتاب الأبرز في ربط التشريع بالتربية، وهو فريد في بابه، وفلتة لم تتكرر -فيما أعلم- هو "الميزان الكبرى" للإمام الشعراني. ورغم أنه شافعي المذهب، فقد صنف كتابه في بيان المسائل المتفق عليها بين المذاهب، ثم المسائل المختلف فيها، مفصلا الآراء، وموضحا الآخذ منها بالعزيمة، والآخذ بالرخصة، ومبينا في كثير من القضايا السبب التربوي وراء القولين.

فمثلا عند مسألة حكم استعمال أواني الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، نجده يذكر الخلاف في المسألة، مبينا رأي الجمهور بحرمة ذلك، ورأي الإمامين الشافعي وداود الظاهري بقصر التحريم على الأكل والشرب دون غيرهما. ثم عقب على القولين، فقال: (فالأول مشدد، والثاني مخفف، واقف على حد ما ورد فرجع الأمر إلى مرتبتي الميزان، ووجه الأول: كمال الشفقة على دين الأمة والأخذ لها بالأحوط فيه، إذ الخيلاء في الوضوء منها مثلا كالخيلاء في الأكل والشرب، ولا ينبغي لمن يتطهر أن يكون متكبرا معجبا بنفسه. إذ الطهور مفتاح الصلاة، التي هي حضرة الله عز وجل الخاصة، وقد أجمع أهل الكشف على أنه لا يصح دخول حضرة الله لمن كان فيه شيء من الكبر، بل يطرد من القرب منها كما طرد إبليس، فافهم).

الجمع بين الفتوى والتقوى

وهناك كتاب صدر في السياق الزمني للغزالي والشعراني، عنوانه "الجمع بين الفتوى والتقوى في مهمات الدين والدنيا" لصاعد بن أحمد الرازي الحنفي، وهو من رجال القرن السادس الهجري، وظل كتابه مخطوطا، حتى طبعته منذ 3 أعوام دار الإرشاد بإسطنبول، والقارئ للعنوان يظن الموضوع في الربط بين الفتوى والتقوى، وقد سعدت أيما سعادة حين رأيت الكتاب مطبوعا؛ فقد جذبني العنوان، وظننت أنه حقق رغبتي في البحث عن كتاب يجمع بين التربية والفتوى، أو التقوى والفتوى، ولكنني سرعان ما عدت بخفي حنين، فالكتاب يهتم فقط بذكر الآراء الفقهية المذهبية، ثم يعقب بأي الآراء أحوط، وأيها رخصة. وكثيرا ما مال للأحوط، وإن لم يخل من مسائل قليلة جدا، بين فيها جانب التقوى.

"حجة الله البالغة"

ومن الفقهاء المحدثين الذين عنوا بهذا الجانب: ولي الله الدهلوي، وقد كتب في ذلك كتابه: "حجة الله البالغة" وهو إن استهدف من كتابه بيان أسرار وحكم التشريع الإسلامي، وإنه ما من تشريع إلا وله مقصد وحكمة، فقد كان من مقاصد كتابه كذلك بيان الحكم التربوية للتشريع، وإن كان مؤلَفه كتاب فقه عام، وليس متعلقا بالفتوى، لكنه من الكتب التي يرجع إليها في الموضوع، حيث تناول موضوعات أبواب الفقه الإسلامي، بل والعقيدة كذلك، بغير ما اعتادت عليه كتب العقيدة والفقه في تلك المرحلة، من جفاف الطرح، والتركيز على الجانب العقلي والحجاجي، فقد جمع كتاب "حجة الله البالغة" بين مخاطبة العقل والقلب والنفس، والإشارة إلى تلك الملامح الثلاثة في جل محاور كتابه.