العدد 1585 /25-10-2023

الكاتب محمد الحداد

قد يظن البعض أن الشيخ عز الدين القسام حيِيَ بعد وفاته لأنه استشهد فحسب؛ ولكن من العجيب أن سيرة الرجل لم تعرف فعلًا إلا بعد وفاته، فقد تكتم أهل العُصبة القسامية على حكايات من فيها إلى وفاة الشيخ ثم قيام تلاميذه بالثورة الفلسطينية الكبرى (1936 إلى 1939م)، فظلت معرفة سيرة القسام محصورة على هؤلاء التلاميذ، وسبَّب هذا شحًا في معرفة تفاصيلها رغم أنها السبب المباشر في إحياء جهاد المحتل والتي امتد أثره إلى وقتنا هذا كما هو مُشاهَد، فعاش الرجل بعد وفاته بالأثر الذي تركه أكثر مما صنع قبلها، وفي هذا الكلمات سنستعرض سيرة الرجل متلمسين ما يجب استلهامه في تلك التجربة التي ليس لها نظير.

بواكير الصبا

هو محمد عز الدين بن عبد القادر القسام، ولد في جَبَلة في اللاذقية -في سورية الآن- عام 1883م في أسرة متدينة معروفة بالتصوف، وقد اختلفت الروايات الشفهية في مدى تمسكه بهذا التصوف(1) بين مؤيد لوراثته عن أبيه مشيخة الطريقة القادرية، وبين من يروي عنه نهيه عن هذا المسلك ويفسر بذلك سر عمله لأشغال عديدة غير ذلك؛ إلا أن ما نجزم به أن هذا لم يؤثر بحال على عزمه في جهاد المحتل كما سيظهر بعد ذلك، وقد أمضى طفولته في جبلة يقرأ القرآن ويتعلم القراءة والكتابة والحساب في الكتاتيب، ثم درس في زاوية الإمام الغزالي اللغة والتفسير والحديث والفقه، ولما وجد أبوه جِده في ذلك عزم على إرساله إلى الأزهر في مصر(2)، ويُعتبر هذا الجد في هذه السن الصغيرة بادرة لهمة عالية ستصحبه فيما بعد دون مفارقة.

إلى الأزهر

رحل إلى مصر وعمره 14 سنة فقط، ودرس فيها سائر العلوم الإسلامية، ويروي رفيق سفره ودراسته عز الدين التنوخي قصة تلخص اعتماد القسام على نفسه في سائر شؤونه، وهي أنهما قد نفد منهما المال أثناء الدراسة، فاقترح القسام أن يبيعا بعض الحلوى لكي يستطيعا الإنفاق منها، ورغم خجل التنوخي من ذلك إلى أن القسام بادر وصار يصيح على الحلوى حتى تباع، وصادف ذلك مجيء والد التنوخي وسؤاله له، فتنصل من الأمر وأشار إلى القسام، فقال الوالد لابنه: «لقد علمك -يعني عز الدين القسام- الاعتماد على النفس، وكسب الرزق الحلال الطيب، وحفظ ماء الوجه من ذل السؤال»(3) وهكذا كان القسام معلمًا وهو لم يزل طالبًا.

نفيره الأول إلى ليبيا

أثناء حصار الأسطول الإيطالي لليبيا عام 1911م انطلقت مظاهرات في سائر بلاد الشام رفضًا لهذا الاحتلال، وقد شارك فيها القسام، لكنه لم يلبث أن انتقل إلى جمع المؤن وتجنيد الشباب الشامي وتدريبهم حتى يشاركوا في الجهاد، وقد أمَّهم في رحلتهم إلى هناك لرؤية بالمجاهدين وشيخُهُم عمر المختار(4).

احتلال مسقط رأسه وبدايات الجهاد

ولم تطل السنوات حتى احتل الأسطول الفرنسي اللاذقية وسائر الساحل السوري عام 1918م، وكان عز الدين القسام أول من رفع راية الجهاد ضدهم(5) وقد باع بيته ليتفرغ للتنقل في الجهاد والتعبئة له، ثم اختار ميدان صهيون محلًا لجهاده وأقام فيه قاعدة عسكرية انطلق منها إلى تكبيد الفرنسيين خسائر فادحة، فلما أرهقهم ذلك ساوموه على مسالمتهم مع وعده بتعيينه قاضيًا شرعيًا، فأبى، فحكموا عليه بالإعدام ووضعوا مكافأة قدرها 10 آلاف ليرة لمن يدل عليه -وكانت حينئذ مبلغًا كبيرًا- ثم زادت وتيرة الحرب وقطع الفرنسيين الإمدادات عن المكان إلى أن اضطُر إلى مغادرته إلى حيفا والتي بدأ فيها مرحلة جديدة من المواجهة(6).

إلى حيفا وتحدٍّ جديد

في عام 1920م لم تكن بلاد المسلمين قد قسمت إلى دول تفرق بينها حدود مصطنعة، فبعد أن وصل القسام أرض فلسطين عزم على تكوين العصبة المؤمنة التي يستطيع بها مواجهة المحتل البريطاني لفلسطين والمحتل الفرنسي لسوريا، فبدأ بالتعليم والتربية؛ فعمل بالتدريس باثًا روح الجهاد في طلبته، وعمل في الإمامة والخطابة معلنًا أن السمع والطاعة لا تكون إلا لحاكم مسلم وليس من ذلك طاعة المحتل البريطاني، وقضى 10 سنوات في التحريض على الجهاد واقتناء السلاح وتكوين العصبة المؤمنة وتعهدهم بالتدريب البدني والشرعي متأسيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- الذي اتخذ من دار هجرته موطنًا لتكوين الجيش والانطلاق إلى حرب العدو، وقد بدأ ذلك بالفعل عام 1930م بقيامهم بضربات مؤلمة لليهود في قضاء حيفا(7) سرًا، واستمر ذلك خمس سنوات إلى أن أصبح في العلن عام 1935م

الاستيطان اليهودي في فلسطين وشرارة الجهاد التي لم تخمد

كان الشيخ القسام يرى مدى توسع اليهود في أرض فلسطين إلى أن أخذوا خُمس مساحتها من المسلمين، فعزم على النفير العام وحث الناس عليه مفسرًا لهم آيات سورة القتال (التوبة) مُوجبًا الجهاد في سبيل الله مقدمًا عليه بنفسه، إلى أن حدثت معركة يعبد في نوفمبر عام 1935م، وفيها أن الجيش الإنجليزي حاصر الشيخ ورفاقه في غابة بمكان يدعى حرش يعبد، فثبت الله المجاهدين وأبوا الفرار رغم أنهم يستطيعون ذلك، وبدت أمامهم النجاة عندما ناداهم الضابط البريطاني: «استسلموا تنجوا»، فأجاب القسام: «لن نستسلم، هذا جهاد في سبيل الله»، ثم هتف بأصحابه: «موتوا شهداء»، فردد الجميع: «الله أكبر الله أكبر» فقاتلوا حتى قُتل الشيخ وثلاثة من أصحابه وأسر عدد من الباقين بعد أن أثخنوا في الإنجليز وأوقعوا منهم أكثر من 15 قتيلًا.

الثورة الفلسطينية

ومما يُعجب له ويؤيد ما ذكرناه في أول المقال أن الثورة الفلسطينية الكبرى 1936م والتي شارك فيها سائر أهل فلسطين على مختلف أطيافهم وأماكنهم قد بدأت بعد وفاة القسام نتيجة لاستشهاده!، يقول عبد الوهاب الكيالي: «ولقد كان لاستشهاد القسام البطولي أثر عميق في فلسطين كلها، وسرعان ما أصبح رمزاً للتضحية والفداء.. وأصبحت كل محاولة لإقامة تقارب بين الفلسطينيين والسلطات الحكومية مكتوباً عليها الفشل، وبعد أقل من شهر من اصطدام الجيش بالقسام أصبحت دائرة التحقيقيات الجنائية تعرب عن قلقها من تطور الأحداث، وعمَّ الحقد على الحكومة قرى فلسطين كلها، وأصبح الرأي العام ينظر إلى القسام وأتباعه نظرة تقدير بالغ ويعتبرهم أبطالاً وشهداء»(8) ثم لم يلبث الجهاد الذي أحياه القسام أن استمر إلى وقتنا هذا، فلم يهنأ اليهود في فلسطين بعيش، ولم يحسموا معركة واحدة حتى كتابة هذه السطور، بل إننا سائرون يقينًا إلى وعد الله في كتابه: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (الإسراء: 7)، فرحم اللهُ القسامَ، ووفق خلفه إلى إتمام ما أراد.