العدد 1575 /16-8-2023
أواب ابراهيم

كثيرة هي الحوادث الأمنيّة التي لها دلالات مهمّة أبعد من كونها مجرّد حوادث "بنت ساعتها". لكنّ دلالات حادثة كوع الكحّالة وشاحنة الأسلحة تطغى على غيرها، من دون التقليل من أهميّة الحوادث الأخرى التي حصلت وستحصل في البلد. ومن الكحّالة تفرّعت "أكواع" سياسية كثيرة على الطريق التي يسلكها لبنان.

فلم تكن موقعة الكحالة بين مسلحين من حزب الله وآخرين من أبناء المنطقة سوى دليل جديد على أنّه لا وجود للدولة اللبنانية، أو أن هذه الدولة عاجزة عن أيّ تحرك أو خطوة أو تدبير في وجه قوى الأمر الواقع، لا بل إن هناك من في هذه الدولة وخارجها يتزلّف لهذه القوى لعلّه يحظى برضاها فتكرمه بمنصب من هنا أو منصب من هناك.

ما كان لافتاً في موقعة الكحالة أنّ الدولة بدت وكأنها طرف محايد لا علاقة لها بما يجري، وبرز حزب الله من خلال بياناته وتصريحات مسؤوليه وكأنّه هو الدولة التي تعرّضت لما سمّاه اعتداء، وأنّ المحاسبة يجب أن تطال أهل الكحالة وألا تطال أي عنصر من عناصره. فهم يتمتّعون بشرعية نقل السلاح واستخدامه أكثر ممّا لدى القوى المسلّحة الرسمية من شرعية.

يمكن الحديث عن الكثير من الانعكاسات الداخلية لحادثة كوع الكحّالة، سواء لأنّها توسّع قاعدة الاحتقان الشعبي من ممارسات الحزب، أو لأنها تكرّس مرّة أخرى عدم اكتراث الحزب بالاعتراضات على إلحاقه لبنان عبر سلاحه بمقتضيات مواجهات إقليمية متصاعدة. وقد بدا واضحاً أن قيادة الحزب مطمئنة إلى قدرتها على لفلفة الحادث وتفاعلاته، وأنّه مهما اشتدّت الحملة، فإنّ ذلك لن يغيّر شيئاً على الأرض، وسيقتصر الأمر على تصريحات وبيانات لا مفعول لها لبضعة أيام، ثمّ يحصل حدث ما يطغى على كوع الكحّالة.

يأتي هذا الاطمئنان رغم انفلات المشاعر العدائية المتبادلة -بشكل غير مسبوق- بين جمهور مسيحي تصاعدت نقمته على تصرّفات حزب الله إلى درجة صدور دعوات لا تتوانى عن تهديد السلم الأهلي، وجمهور الحزب الذي ذهب إلى أبعد مدى في تضخيم ردة الفعل وتفعيل الخيال في الحديث عن "العملاء"، مشحوناً بفائض القوة والمكابرة جرّاء التعبئة الموازية لها.

فالحادثة وقعت على الكوع الذي يتمتّع برمزية مسيحية في تاريخ الصدامات الأمنيّة في البلد. وخلافاً لتركيز "الحزب" حملته الإعلامية ضدّ حزبَي "القوات اللبنانية" و"الكتائب" بأنّهما يحرّضان تحت عنوان اتّهام "عملاء إسرائيل السابقين" بأنّهم "الميليشيات" التي تسبّبت بإطلاق النار بعد انقلاب الشاحنة، تبيّن أنّ القتيل الذي يتّهمه إعلام الحزب بالمبادرة إلى إطلاق النار على حرّاس الشاحنة، ينتمي إلى التيّار العوني، وهو متحدّر من "حزب الوعد" الذي كان أسّسه إيلي حبيقة، وكان حليفاً لحزب الله.

منذ وقوع حادثة الكحّالة، اتّخذت النقاشات والجدالات اتجاهين. الأوّل أن تشكّل هذه الحادثة مدخلاً إلى حلّ رئاسي يقود مرحلة بناء المؤسّسات لنهوض البلاد من جهة، ولحماية "المقاومة"، من وجهة نظر الحزب، في تسوية وطنية يقودها الرئيس المقبل، من جهة ثانية. الثاني، أن تدفع هذه الحادثة كلّ فريق إلى أن يتمسّك بمواقفه، لا بل أن يزداد تمسّكه بها أكثر من أيّ وقت مضى.

حادثة كوع الكحالة وما سبقها من حوادث، تثبت رغم النجاح في تجاوزها كم أنّ الشرخ عميق، رغم العبور منها إلى استعادة الهدوء. وهي في الوقت نفسه تعمّق ندوباً سياسية يكون من المكابرة عدم الالتفات إليها، ومن النكران المميت تجاهل مخاطرها. وبعبارة أخرى يكون من العناد الأعمى أن يركن حزب الله إلى تضافر المساعي من أجل تهدئة الخواطر فيواصل سياسة طمر رأس النعامة في الأرض، بينما تتراكم الظروف والعوامل التي تسهل على الساعين إلى عزله مسيحياً ولبنانياً وخارجياً.

أوّاب إبراهيم