العدد 1574 /9-8-2023
أواب ابراهيم

عندما أنهى الوسيط الفرنسي جان إيف لودريان زيارته الأخيرة لبيروت، كان يعلم أن حظوظ التسوية السياسية معدومة في الأشهر الخمسة المتبقية من السنة الجارية. لكن باريس راهنت على الخرق في شهر أيلول. لكن الأمور سارت في عكس الاتجاه، وهي تتجه سريعاً إلى الأسوأ، إلى قعر جديد في مسار الانهيار. بينما يحكم البعض على مهمّة لودريان بالفشل، ستبقى العيون شاخصة إلى المهمّة القطرية التي تعمل بعيداً عن الإعلام وعدسات الكاميرا، وعلى متنها يُفترض أن يكون الحلّ الرئاسي. وإلّا فإنّ البلاد ذاهبة إلى انهيار سيكون حسب البعض أعمق من كلّ ما شهده اللبنانيون حتّى الآن.

المصادر المتابعة لمباحثات اللجنة الخماسية، التي انعقدت قبل أسابيع في الدوحة، لا تحبّذ الحديث عن "حوار" حول طاولة مستديرة لأنّها تعتبر ذلك تعدّياً على اتفاق الطائف مما يشكل استفزازاً للسعودية التي تعتبر نفسها وصية على الاتفاق، فيما الحلّ يكون بالذهاب مباشرة إلى الحلّ، وهو يبدأ بانتخاب رئيس وتشكيل حكومة، وبعد ذلك يمكن مناقشة كلّ شي آخر.

ليست المرة الأولى التي يشهد فيها لبنان شغوراً رئاسياً، بل لعلّ الشغور في سدة الرئاسة بات في السنوات الأخيرة عرفاً لبنانياً جديداً. لكن الفارق بين الشغور الرئاسي الذي سبق وخبره اللبنانيون والشغور الحالي يكمن في الانهيار المالي الذي سيضع المعنيين أمام خيارين لا ثالث لهما: الانتخاب أو الفوضى. فقدرة الدولة تتضاءل تدريجياً على دفع مستحقاتها من رواتب وطبابة ودواء وكهرباء وغيرها، وستصل في وقت قريب لتعلن عجزها عن الدفع بعد تبذير ما تبقّى من عملة صعبة ضمن الاحتياطي الإلزامي الذي هو كناية عن أموال المودعين، هذا عدا عن احتمال التوقف عن الإنفاق عن طريق الصرف الاضطراري، والذي سيؤدي، في حال حصوله، إلى فوضى في الداخل، لأنه مع التوقّف عن دفع الرواتب ومستلزمات القطاعات الحساسة والحيوية والاستراتيجية في الدولة يتحوّل الشارع إلى الحل الوحيد. فالوضع المالي المختلف هذه المرة عن المرات السابقة ينسف مقولة "النفس الطويل" التي يتفاخر بها حزب الله ويرددها في كل محطة ومناسبة، لأنّ الانهيار يقطع النفس ويُسقط المكابرة ويضع الجميع أمام الأمر الواقع، والحزب الذي لا يستطيع مواجهة الإشكالات التي تشهدها المناطق الخاضعة لنفوذه وتأثيره، لن يتمكن من مواجهة جيوش الموظفين والغاضبين الذين لن يبقى أمامهم بعد فترة سوى الشارع. هذا عدا عن الشغور في مراكز أساسية في الدولة لايستقيم الاستمرار في عملها بالإنابة، خاصة أن البُعد الطائفي لايغيب عن هذه المراكز. فإذا كان المسيحيون "هضموا" انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان "الماروني" وقيام النائب الأول للحاكم "الشيعي" بمهام الحاكم بالإنابة، فإنهم على الأرجح لن يهضموا إحالة قائد الجيش "الماروني" إلى التقاعد، ليكون الضابط الأعلى رتبة والذي يرجّح أن يكون من طائفة أخرى بمهام القائد.

لذلك كلّه، يخشى البعض أن يكون لبنان في طريق عودته إلى النقطة الصفر سياسياً. وثمة مَن يخشى الانزلاق إلى طبقات جديدة في الانهيار المالي والنقدي خلال هذه الفترة، خصوصاً في ظلّ الإرباك الذي تعيشه قوى السلطة والإدارة الجديدة لمصرف لبنان. فالإيجابيات التي ظهرت في الأشهر الأخيرة، ولو في الشكل، وأوجدت هامشاً للتفاؤل، كان سببها اتفاق بكين الذي جمع طهران بالرياض، ورغبة البلدين في تطبيع العلاقات بينهما وإطفاء بؤر التوتر الإقليمية. لكن من الواضح أن الإيجابية التي رافقت هذا المسار يتعرّض اليوم لانتكاسة.

أحد مؤشرات ذلك، تحذيرات دول الخليج -من دون مناسبة- لمواطنيها بتوخي الحذر خلال وجودهم في لبنان، بينما السعودية تفردت بدعوة مواطنيها إلى مغادرته بسرعة، وهو أحد مؤشرات التصعيد السياسي والتأزّم الإقليمي، وهو ما قد يعقد المشهد الداخلي اللبناني من جديد.

أوّاب إبراهيم