بقلم : المهدي مبروك

أخفقت حركة السترات الحمراء في تونس إخفاقا ذريعا في أن تجلب اهتمام الرأي العام، فضلا عن تحريكها الشارع وحشد الأنصار، بمناسبة انطلاق الذكرى الثامنة للثورة التونسية، على الرغم من الصخب والضجيج الذي أطلقته منذ مدة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام التقليدي. وكانت قد أعلنت أن يوم 17 كانون الأول الجاري سيكون يوما ترتج له البلاد، وهو التاريخ الموافق لاندلاع الأحداث التي أسقطت تاليا الرئيس بن علي قبل ثماني سنوات. لم يحدث شيء من ذلك، على الرغم من حالة الاحتقان القصوى التي تعرفها البلاد، على خلفية سلسلة إضرابات يقودها الاتحاد العام التونسي للشغل، خصوصا في قطاعي التعليم والنقل. يضاف إلى حالة الهشاشة السياسية التي تشهدها البلاد، بعد إنهاء التوافق بين حزب نداء تونس وحركة النهضة، واندلاع صراع صامت بين مؤسستي رئاستي الجمهورية والحكومة.

نظريا تتوفر كل مواد ديناميت الانفجار. ومع ذلك لم يستجب الشارع لحركة السترات الحمراء التي ظلت معزولة، بل محل استخفاف واسع لدى النخب، وحتى الفئات الاجتماعية الأكثر تضرّرا من الخيارات الاقتصادية التي ظلت تنتجها أكثر من سبع حكومات، تعاقبت على البلاد بعد سقوط النظام. ويشار إلى أن

ما تفسير عزلة حركة السترات الحمراء وفشلها في تعبئة الجمهور وراءها؟ يبدو للوهلة الأولى أنها لم تستخلص الدروس والعبرة من الثورة التونسية التي كانت بلا زعامات، ولا ناطقين باسمها، انقدحت كذلك، وانطلقت بعفويتها وجموحها، وظلت على هذا النحو حتى سقط النظام بعد نحو شهر. لم تفرز الثورة أيديولوجيا، ولا لائحة مطالب جاهزة، فحتى شعاراتها قدّت في أثناء المواجهة، وعبرت عن ضيق اجتماعي عام، ومزاج شعبي يتبرّم من الفساد والبطالة والتهميش. تدريجيا، رفع الشباب شعاراتٍ وهتافاتٍ تنشد الكرامة والحرية في مفرداتٍ متلعثمة. في منتصف المشوار هذا، كانت كرة النار الملتهبة تستقطب مزيدا من وقود الإرادة والتعاطف، فانضم إليها النقابيون والنشطاء الحقوقيون، من دون أن يتزّعموا تلك الاحتجاجات، في حين كان الشباب يبتكر أشكالا من النضال الميداني، على غرار التظاهر ليلا والاعتصامات وتطويق مؤسسات الدولة.. إلخ.

كما عرفت البلاد خلال السنوات الفارطة عشرات الحملات التي تحولت إلى حركات احتجاجية، اتخذت من مسائل اجتماعية موضوع تحركاتها، على غرار "مانيش مسامح" و"وينو البترول"، أي قضايا نبيلة تم التحرك من أجلها بشكل أفقي، لعب فيها الشباب غير المتحزب دورا حاسما، من خلال الاندفاع والحماس الذاتي والالتزام الأخلاقي للدفاع عن قضايا تهم أوسع الفئات الاجتماعية، في مناخ من التبرّم بالطبقة السياسية كلها.

على خلاف ذلك، بدأت "السترات الحمراء" حملتها بندوة صحافية فخمة، سلطت الأضواء على زعاماتها بشكل مسبق، ما أشاع لدى أوساط واسعة من الرأي العام أنهم مجرد حطب لمعارك لا تعنيهم بشكل مباشر، أو هم لا يطمئنون إلى أن استثمارها سيكون من أجل القضايا التي يعتقدون أنها تعنيهم بشكل مباشر، خصوصا وأن قيادات "السترات الحمراء" أعلنت عن قائمة مطالبها التي تظل متعلقةً بتعديل النظام السياسي، وضخّ مزيدٍ من الصلاحيات لفائدة مؤسسة رئاسة الجمهورية، وهي معركة يعتقد بعضهم أنها معركة ديكة، لا تعنيهم في شيء.

وإذا كانت الحركات المشار إليها قد حافظت على مسافةٍ تفصلها عن الفاعلين السياسيين، وتحديدا الأحزاب ومختلف سلطات الدولة ومؤسساتها، فإن حركة السترات الحمراء وضعت نفسها على هذا النحو تحت تصرف مؤسسة رئاسة الجمهورية، وأجندتها السياسية المتعلقة تحديدا بإقالة رئيس الحكومة وتنقيح الدستور. وهكذا بدت ذراعا سياسيا لمؤسسة الرئاسة، وزادت تصريحات الناطقين باسمها من حدة الشكوك تلك، حين أكدوا أنهم يحظون بدعم من رئاسة الجمهورية، وتحديدا مستشاريها.

كل الظروف مهيأة لأن يكون شتاء تونس ساخنا بما يمكن أن تشهده من تحرّكات اجتماعية، في سياق ما يعترض الانتقال الديموقراطي من صعوبات اقتصادية واجتماعية مركّبة ومضاعفة، عنوانها البطالة، ارتفاع الأسعار، الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب جهات وفئات واسعة. ومع ذلك لن يكون لـ"السترات الحمراء" تحديدا أي جاذبية. ثمة كيمياء شديدة التعقيد للتحركات والاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، لا يمكن تماما استنساخها في حالة وصفات جاهزة.