العدد 1336 / 7-11-2018

يذكّرنا ما يحدث في العالم، خلال السنوات الأخيرة، بنظرية الدومينو الأميركية التي ظهرت إبّان الحرب الباردة للتعبير عن المد الشيوعي وسقوط بلدان أوروبية شرقية، الواحدة تلو الآخرى تحت النفوذ الشيوعي. ومع نهاية الحرب الباردة بسقوط جدار برلين، انعكست النظرية رأساً على عقب، حيث تحولت تلك الدول الواحدة تلو الأخرى إلى ديمقراطيات. أما اليوم، فإن نظرية الدومينو اتخذت طبيعة شعبويةً ويمينيةً متطرّفةً مع السقوط المتوالي لدول في مخالبها عبر انتخابات ديمقراطية.

نعيش حقاً مرحلة عولمة الشعبوية والتطرّف بوصول تياراتٍ شعبويةٍ ومتطرفة إلى الحكم. ففي أوروبا، السباقة في هذا المجال، تحكم تلك التيارات أو تشارك في الحكم في دولٍ عديدة، مثل إيطاليا والمجر وبولندا والنمسا وبلغاريا واليونان وسلوفاكيا وفنلندا وسويسرا، وهي قاب قوسين أو أدنى من السلطة في دول أخرى. إنه مشهد دولي قاتم يوحي بأن العالم على فوّهة بركان، فالديمقراطية لم تعد ذلك الحصن المنيع ضد التطرّف من خلال التنشئة المجتمعية، حتى يبقى نشاطه في حدود القواعد الديمقراطية ال معمول بها. إذ يبدو أن المنظومة الديمقراطية فقدت من قدرتها التنظيمية والتأطيرية، ليس لأنها لم تعد صالحةً، ولكن لتراكم الإخفاقات السياسية للحكومات المتعاقبة عقودا، من جهة، ولتحرّر الكلمة والرأي العنصريين في الدول الديمقراطية، على الرغم من منظومتها القيمية وقوانينها، من جهة ثانية. ففي وقتٍ أصبح فيها الصوت المنادي بالقيم الإنسانية خافتاً تصلب فيه الصوت العنصري، إلى درجة أن بلدانا عديدة تعيش مزايداتٍ سياسيةً شعبويةً ومتطرّفةً لم تعهدها قط.

تتفق مختلف التيارات الشعبوية (اليمينية واليسارية) واليمينية المتطرّفة في نقاط، وتختلف في أخرى، وإن كانت الفروق ضئيلة ونقاط التقاطع كبيرة. لكن عموماً يمكن القول إن التيارات الشعبوية اليمينية واليمينية المتطرّفة تتقاسم عدة ميزات أساسية: معاداة المهاجرين والأجانب عموما، خصوصا المسلمين؛ مناوأة الأنظمة الديمقراطية القائمة، فهي تقول كلها بمبدأ "إرحل"؛ التناغم والتحالف مع التيارات الدينية والكنسية التي تمثل قاعدتها الاجتماعية إلى جانب الطبقات الشعبية؛ معاداة السامية، لكنها مضمرة، فمعظم هذه التيارات تمارس "التقية" السياسية، حتى لا تصدم مجتمعاتها، وبالتالي تتفادى نفورها. وحالة التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقاً) في فرنسا نموذج في هذا المجال، فهي توحي بأنها طوت صفحة معاداتها السامية مفضّلة التركيز على الإسلام والمسلمين، لكن الإجراء تكتيكي، حتى تحين اللحظة السياسية لتجهر مجدّداً بأيديولوجيتها القائمة على ركيزتين: العنصرية ومعاداة السامية.

أما نقاط الاختلاف فتخص البيئة الوطنية لكل تيار، التي تجعله متأثراً بتاريخ بلاده وبواقعها الاجتماعي، كما تخص المواقف حيال المسائل الاقتصادية، فالتجمع الوطني يمجّد تاريخ فرنسا الاستعماري، لا سيما حرب الجزائر وحقبة فيشي المتعاون مع ألمانيا النازية. أما بولسونارو فيمجد الديكتاتورية العسكرية التي حكمت البرازيل بين 1964و1985. بل إنه يمجد حتى التعذيب الذي مارسته هذه الدكتاتورية، أما اقتصادياً، فبعض التيارات اليمينية المتطرّفة ليبرالية، فيما أخرى مناوئة لليبرالية وحمائية؟

بغض النظر عن أسباب (الإخفاقات السياسية للحكومات المتعاقبة، انتشار الرشوة، استفحال سلطة عالم المال وسيطرته على القرار السياسي، تبعات العولمة وعدم إيجاد الحكومات الحلول المناسبة للاستفادة منها أكثر والتقليل من تداعياتها السلبية، تنامي النزعة العنصرية ، "الصحوة" القومية، القدرة التضليلية التي تسمح بها شبكات التواصل الاجتماعي...)، فإن السؤال الذي سيفرض نفسه في السنوات القليلة المقبلة هو هل ستصبح العنصرية القاعدة، والتسامح استثناءً؟

لا مبالغة في القول إن العالم يعيش اليوم مشهداً يشبه، في بعض جوانبه، فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية التي عرفت مدّاً لمعاداة السامية والعنصرية ولصعود القوميات. وهنا الخطر. فكما قال الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران، إن بداية القومية تكون جيدة لكن نهايتها سيئة.

يعلمنا التاريخ أن عصر التنوير لم يمنع الأوروبيين من ممارسة الإبادة بحق الهنود الحمر في أميركا، كما لم يمنعهم من اقتراف جرائم استعمارية في حق شعوبٍ كثيرة في أفريقيا وآسيا. ومن ثم فالسلام الديمقراطي الحالي لا يعني أن العالم لن يشهد اضطراباتٍ محلية وخارجية (بين الدول). ربما الدرس الأساسي الذي يجب استخلاصه من هذا كله أن الديمقراطية عملية تطوّرية تتطلب اليقظة، ليس فقط للحفاظ عليها، بل لتطويرها حتى لا تصبح، في نسختها الجامدة أو غير الناجحة، خطراً على نفسها. وإلا سيبكي الديمقراطيون عبر العالم ملكاً مضاعاً فرّطوا فيه. وهذا طبعا يذكّر بحكمة البيت الشعري لأم الأمير عبد الله، آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس: "ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً .. لم تحافظ عليه مثل الرجال".