العدد 1610 /24-4-2024

أيمن إبراهيم

يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حرباً موازية للقتال الأساسي الذي دخل عامه الثاني، ساحتها قطاع الاتصالات منذ فبراير/شباط الماضي، حين انقطعت شبكات الاتصالات في جميع ولايات البلاد قبل أن تتمكن الشركات العاملة من إعادة الشبكة إلى بعض المناطق. ويتسبّب هذا الانقطاع في تفاقم الأوضاع المعيشية للمواطنين بسبب توقف التطبيقات المصرفية والتحويلات المالية وانعدام المال النقدي لديهم في بلد يشهد إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم. وفي ظل استخدام طرفي الحرب كل الوسائل لتحقيق انتصارات، شكلت حرب الاتصالات واحدة من الوسائل التي استُخدمت بشكل كبير في هذا الصراع، وسط اتهامات حقوقية بأن ذلك يندرج ضمن جرائم الحرب، لما له من تأثير مباشر على المواطنين وحياتهم.

ومنذ اندلاع المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 إبريل/نيسان 2023، انقسم الناس بين مناطق سيطرة كل طرف بلا مساعدات إنسانية تذكر، وباتوا يعتمدون على الأسواق القليلة العاملة في توفير الغذاء والدواء، وعلى التحويلات المالية التي تصلهم من الأهل والأصدقاء داخل البلاد وخارجها، بعدما فقد ملايين السودانيين وظائفهم ومصادر رزقهم جراء توقف عمل المؤسسات والمصانع والأسواق والمشاريع المختلفة.

وفي مطلع فبراير 2024 انقطعت شبكات الاتصالات التي تشغّلها ثلاث شركات هي "زين" الكويتية و"سوداني" السودانية و"إم تي إن" الجنوب أفريقية عن عموم البلاد، وتبادل الجيش و"الدعم السريع" الاتهامات بشأن المسؤولية عن قطع الخدمة. لكن العضو المنتدب لشركة "زين سودان" الفاتح عروة، قال في مقطع فيديو نُشر على مواقع التواصل الاجتماعي في فبراير الماضي، إن قوات الدعم السريع قطعت خدمات الشركة بعد إيقافها مولدات الكهرباء عن مركز البيانات الرئيسي الموجود في منطقة جبْرة في العاصمة الخرطوم، مما أدى لقطع الشبكة عن السودان بأكمله. ونفى عروة أن تكون الشركة قد تلقت توجيهات من أي جهة بقطع الخدمة عن دارفور، إذ اتهم مؤيدو الدعم السريع الجيش في منشورات على "فيسبوك" بقطع الخدمة عن دارفور التي تخضع أجزاء واسعة منها لسيطرة "الدعم". وأشار عروة إلى أن الخدمة انقطعت هناك بسبب الحرب وعدم القدرة على توصيل الوقود ومعدات الصيانة وتأمين فرق العمل.

واكتفت الشركات بالاعتذار لمشتركيها عن توقّف الخدمة بسبب ظروف خارجة عن الإرادة حسب وصفها، أما شركتا "زين" و"سوداني" فتمكنتا من إعادة التغطية في عدد من الولايات، فيما ظلّت مناطق أخرى مثل أجزاء من ولايات الجزيرة والخرطوم والنيل الأبيض ودارفور وكردفان خارج التغطية، بينما لم تتمكن شركة "أم تي أن" من العودة للعمل بعد.

وكان قطاع الاتصالات محل صراع سياسي منذ سقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير بثورة شعبية في 11 إبريل/نيسان 2019، إذ تسلّم السلطة المجلس العسكري الذي كوّنه قادة الجيش برئاسة عبد الفتاح البرهان والذي أصدر قراراً منتصف أغسطس/آب 2019 يقضي بتبعية جهاز الاتصالات والبريد لوزارة الدفاع بدلاً من وزارتي الإعلام والاتصالات. وبعد تشكيل مجلس السيادة أصدر البرهان قراراً آخر في سبتمبر/أيلول 2019 ألغى القرار السابق وقضى بتبعية جهاز الاتصالات هذه المرة للمجلس السيادي.

ومنذ ذلك الوقت، تم قطع شبكة الاتصالات والإنترنت أكثر من مرة بسبب التظاهرات والاحتجاجات المتواصلة الرافضة لوجود العسكر في السلطة، وكان أبرزها قطع الاتصالات خلال وبعد مجزرة فضّ الاعتصام أمام قيادة الجيش في الخرطوم في يونيو/حزيران 2019، وقطعها لنحو شهر كامل في أعقاب الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 الذي نفذه البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) ضد حكومة عبد الله حمدوك.

وخلال الأيام الماضية تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي خطاباً من مدير جهاز تنظيم الاتصالات والبريد موجّهاً بتاريخ 7 ديسمبر/كانون الأول 2023 يطلب فيه من قوات الشرطة منع استخدام ومصادرة أجهزة الإنترنت الفضائية "ستارلينك"، وهي الأجهزة التي أدخلتها قوات الدعم السريع بكثرة إلى أماكن سيطرتها لتعويض قطاع الشبكات العامة. وحوّلت قوات الدعم هذه الأجهزة إلى مصادر دخل لجهة أن المواطنين اضطروا لاستخدام هذه الأجهزة للتواصل مع ذويهم والحصول على تحويلات مالية لشراء السلع الغذائية والدفع لأصحاب المتاجر.

والأسبوع الماضي، أشارت تقارير صحافية في السودان إلى أن شركة "سبيس إكس" الأميركية التي تشغّل خدمة إنترنت "ستارلينك" استجابت لطلب السلطات السودانية لإيقاف عمل محطات خدمة "الإنترنت الفضائي" من السودان اعتباراً من نهاية إبريل الحالي، لكن الحكومة السودانية لم تُصدر ما يفيد بطلب ذلك واكتفت بالصمت. كما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية في 16 إبريل الحالي، أن المستخدمين الذين يصلون إلى خدمة الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية في السودان وزيمبابوي وجنوب أفريقيا، حيث لم يتم ترخيصها، تلقوا إشعارات من "ستارلينك" بأنه سيتم قطع الخدمة عنهم بنهاية إبريل الحالي.

وقال المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان عثمان صالح، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن قطع شبكات الاتصالات في السودان يأتي في إطار الحرب الدائرة بين الجيش والدعم السريع، وهما يستخدمان كل الوسائل لتحقيق انتصارات على الأرض، من دون أن يحسبوا تأثيرها على المواطن، وإنما يحسبون تحقيق الانتصارات على العدو المفترض. ولفت إلى أن حرب الاتصالات واحدة من المسائل التي استُخدمت بكثرة في السودان، وهناك مناطق كثيرة تم قطع الشبكة عنها.

وأشار إلى أن أول تأثير لذلك أن الناس داخل السودان لا يستطيعون التواصل مع الآخرين ولا يستطيعون الاطمئنان إلى أهلهم مع انتشار رقعة الحرب والرصاص المنهمر، لأن قطع شبكة الاتصالات عرقل التواصل، وهو أكبر ضرر أصاب الشعب خلال هذه الفترة، في وقت توقفت كل الأعمال واستهلك الناس مدخراتهم، وأصبح اعتمادهم على المعيشة يستند بصورة أساسية على تحويلات الخارج والتي تعتمد بدورها على شبكة الاتصالات. ولفت إلى أن قطع الشبكة يعني قطع مصدر دخل كل الأسر في السودان، وتعريضها للتجويع، مضيفاً: "من أخطر الأسلحة استخدام سلاح التجويع ضد شعبك".

وأوضح صالح أن خدمة الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية مخصصة للمناطق المنكوبة لتوفير الشبكة للمناطق التي لا تصلها الخدمة التقليدية، لافتاً إلى أن الحكومة قررت إيقاف خدمة "ستارلينك" وهي لم تدرس هذا القرار، أو أنها تعرف آثاره لكنها غير مهتمة بتأثير ذلك على انقطاع الشعب عن العالم، وتوقف التحويلات المرسلة للمعيشة والعلاج ومشاكل الحياة اليومية.

واعتبر المدافع عن حقوق الإنسان أن ما تقوم به الحكومة السودانية يندرج ضمن جرائم الحرب، لأنه يؤثر على المواطنين وهم غير مشتركين في الحرب بصورة مباشرة، وفرض عقوبات عليهم يمكن أن يؤدي لتعريض حياتهم وصحتهم للخطر. وأضاف: "تتحمل الحكومة المسؤولية عن ذلك لأنه بقطع خدمة الإنترنت يتوقف التواصل وارتباط السودان بالعالم، ويتوقف التعليم عن بُعد، والبنوك والتحويلات المالية، ويتم حرمان الناس من كل هذه الخدمات".

وفي الخرطوم حيث جالت "العربي الجديد" في مناطق طيبة والشقيلاب والدخينات والكلاكلة اللفة جنوب الخرطوم، افتتح مواطنون وتجار متعاونون مع قوات الدعم السريع مكاتب لتقديم خدمة الإنترنت عبر "ستارلينك"، وتبلغ قيمة الاتصال لمدة ساعة ما بين ألفين وثلاثة آلاف جنيه (الدولار الأميركي يساوي نحو 1400 جنيه). ومثّل ذلك طوق نجاة للمواطنين الذين عانوا من انقطاع شبكات الاتصال التي يحصلون عبرها على تحويلات وإعانات مالية من خلال التطبيقات المصرفية، وقد سادت الآن حالة من الخوف وسط هؤلاء المواطنين بسبب توقف حصولهم على المال إذا تم قطع الإنترنت.

وباتت غرف طوارئ عديدة شكّلتها لجان المقاومة (تنظيمات شعبية) ومنظمات خيرية، ومبادرات المطابخ الشبابية في الأحياء، تعتمد على التبرعات التي تصلها عبر التطبيقات المصرفية لشراء السلع الغذائية وتشغيل آبار ومحطات المياه من أجل معيشة السكان الموجودين في مناطق سيطرة الدعم السريع، أو الموجودين في مناطق لا تصلها المساعدات الإنسانية وتضم الآلاف من النازحين الذين لا يملكون قوت يومهم ويعتمدون على هذه المطابخ في الحصول على الطعام. وتنشر هذه المبادرات أرقام حساباتها على مواقع التواصل وتتلقى التبرعات لإطعام الناس.

وأبدى أحمد، وهو عضو في أحد المطابخ الخيرية بمنطقة شرق النيل في الخرطوم بحري، مخاوفه من وقوع كارثة ومجاعة إذا توقفت المطابخ الخيرية التي تقدم الطعام والماء للأسر المحاصرة في الخرطوم. وأضاف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن مطبخهم يقدم الوجبات لنحو 600 أسرة يومياً، ويعتمد في ذلك على التحويلات المالية التي ترد للمطبخ من فاعلي الخير والمتبرعين داخل وخارج السودان. وقال إن آلاف الأسر في الخرطوم، التي تقع مناطق واسعة منها تحت سيطرة قوات الدعم السريع، تستخدم شبكة الإنترنت والاتصالات للتواصل مع ذويها وتلقي الإعانات المالية، لافتاً إلى أن مطبخهم يعتمد على تطبيق "بنكك" التابع لبنك الخرطوم، وتطبيق "فوري" التابع لبنك فيصل الإسلامي، لشراء السلع، وإذا انقطع الإنترنت سيتوقف عملهم بالكامل.

من جهته، قال المواطن مصطفى علي، الذي يقيم في الخرطوم، لـ"العربي الجديد"، إنه بعد توقف شبكات الاتصالات العامة واجه وأسرته الجوع بسبب فشلهم في الحصول على مال نقدي عبر تحويله من تطبيقهم المصرفي للمتاجر مثلما كان يفعل سابقاً. ولفت إلى أنه بعد فتح مكاتب تقديم الإنترنت عبر "ستارلينك" تمكن من الحصول على تحويلاته المالية من الأقارب وأشقائه خارج الخرطوم. وتابع: "أذهب إلى مكتب خدمة "واي فاي" وأقوم بالتحويل من التطبيق المصرفي لصاحب المكتب ويعطيني مالاً نقدياً مقابل نسبة 10 في المائة، وهكذا نشتري السلع الغذائية، لكن إذا توقفت الشبكة مجدداً فسنواجه الجوع بلا شك".