العدد 1596 /10-1-2024

أرنست خوري

علامات البؤس كثيرة في بلادنا هذه الأيام. كل مواطن معنيٍّ بشأن عام ما وراء الحدود يكاد يصبح عَدّاداً لضحايا الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية، بما يختزل عجزنا واعتيادنا على رائحة المجزرة وصورها وأعداد قتلاها وأخبارها وكأنها نشرة طقس تشاهدها في نهاية يوم عملٍ طويل. وأن تُمسي مهنة الصحافي تحليل شكل الحرب المقبلة التي ستكون شاملة في لبنان، فإنّ ذلك ينم عن بؤس حال وبؤس مهنة وبؤس منطقة ودّعت السياسة منذ زمن وتحيي مراسم دفنها يومياً. والحروب عندنا غالباً ما تكون محكومة بألا تنتهي بنتائج سياسية، وهو ما ينطبق على غزّة وعلى لبنان في حال تحقّقت تهديدات المهووسين الإسرائيليين بالدم، ورضخوا لسكّان الجليل الذين لن يعودوا إلى مستوطناتهم وقراهم قرب لبنان قبل أن يختفي خطر حزب الله مثلما يقولون. لا عملية السابع من أكتوبر كانت من النوع الذي يفتح ثغرة للوصول إلى نتائج سياسية تخدم الفلسطينيين وقضيتهم، ولا حرب الإبادة الإسرائيلية يمكنها تحقيق أهدافها بعدما كبّر حكام تل أبيب الحجر كثيراً وفي بالهم ختم القضية الفلسطينية بالشمع الأحمر. أما في لبنان، فهناك تتجلّى مقبرة السياسة في كل مرّة يخطب فيها حسن نصر الله بإصبع مرفوع أو من دونه. حزب الله، الذي لطالما جاهر أمينه العام في السابق بأن مأكله وسلاحه وشرابه وتدريبه ورواتبه وعقيدته، جميعها تأتي من طهران وقم وتعود إليهما على شكل ولاء وطاعة مطلقين، يُخبرنا الرجل في خطاب الثالث من يناير/ كانون الثاني الحالي بأنه حرّ في قراراته ومستقل فيها، كحال رفاقه في المحور الإيراني الموزع في بلدان عربية. وقد انتظر حسن نصر الله حتى يصل إلى الجزء الأخير من خطابه ليُطلق نظرية جديدة في العلاقات الدولية مطلوب أن تصبح حقيقة، وقد عبّر عنها بعبارات تمزج بين البساطة والشعبوية كالعادة والأدبيات الدينيّة وتقسيم البشر إلى فسطاطيْن وأوصاف التبجيل المطلق ليصبح الخصم حقيراً خالصاً على وزن حكمته الشهيرة بعد حرب 2006: "نحن أشرف الناس"، بما يجعل "الآخر" تلقائياً أنذلهم.

في خطاب ذكرى اغتيال قاسم سليماني، قال نصر الله إنه "في تجربة ‏محور المقاومة لا يوجد عبيد، لا يوجد إلا السادة الشرفاء القادة الشهداء الذين يصنعون النصر لأمتهم". ومن دون حاجة ليحدّد هوية المخاطَب، يجزم نصر الله بأن خصومه "لا يستطيعون أن يستوعبوا أن ما تقوم به حركات محور المقاومة هي ‏قرارات ذاتية منطلقة من قناعاتها ومن إرادتها ومن إيمانها ومن إخلاصها ومن صدقها وهي ليست أدوات". غاية الكلام أن "هذا النموذج اليوم في محور المقاومة في منطقتنا فريد في تاريخ ‏البشرية وليس فقط في العصر الحاضر، هو نموذج فريد ليس له سابقة". لم يقل إنه نموذج فريد في العقود الأخيرة، ولا في المنطقة ولا الإقليم ولا عربياً ولا إسلامياً، بل ليس أقل من "نموذج فريد في تاريخ ‏البشرية". ومع مرور دقائق الخطاب، يظهر أن حدّوتة استقلالية أدوات إيران كان هدفها تسهيل هضم سبب فتح حسن نصر الله الجبهة اللبنانية في 8 أكتوبر/ تشرين الأول، وكان ذلك، على لسانه دائماً، "قربةً إلى الله تعالى وإسناداً لأهلنا المظلومين في غزة وتخفيفاً عنهم". الجزء الثاني من العبارة يمكن مناقشته ليخلص أبسط مراقب للمجزرة في غزة إلى أن شيئاً لم يخفف الضغط عن القطاع وأهله، لا في جنوب لبنان ولا في مياه البحر الأحمر ولا في قصف رمزي لقواعد أميركية في العراق وسورية، وأن إسرائيل استخدمت شيئاً من آلة الموت التي تمتلكها في غزة وتحتفظ بأشياء لجبهات أخرى. يُقحم نصر الله المستمعين إليه في علاقته بربه عندما يخبرنا بأنه فتح جبهة لبنان "قربةً إلى الله تعالى". أراد التقرب إلى الله ففتح حرباً دمّرت حتى الآن أجزاء كبيرة من قرى في الجنوب اللبناني، وهجّرت 69.009 لبنانيين من قراهم، وقتلت لحزب الله 152 مقاتلاً حتى مساء الاثنين الماضي.

هل يُلام من يعيد النظر في جدوى أي نضال لتحسين أحوال بلداننا، طالما أنّ ما لا تدمّره إسرائيل، فسيتولى أزلام إيران تخريبه؟