العدد 1572 /26-7-2023

توعد الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، بأن أوكرانيا لن تشكّل يوماً "انتصاراً" للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومهما طالت الحرب. لكن، وفي مقابل نظرية تُترجمها أحياناً مراكز الأبحاث الأميركية، والتي تنطق كثيراً بما يُلهم صنّاع القرار، تقول إن على الرئيس الأميركي جو بايدن ألا يتراجع قيد أنملة عن دعم كييف، مهما استغرق ذلك من وقت، تصاعدت منذ بداية العام الحالي نظرية مُقابلة، ترى في استراتيجية الولايات المتحدة المتّبعة لدعم أوكرانيا عملية "فوضوية"، يُخشى أن ترتد على الإدارة الديمقراطية في واشنطن بما هو أسوأ بكثير من مشهد الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان، والذي طبع انطلاقة عهد بايدن.

الإخفاق الذي "قد يكون الماركة المسجلة باسم السياسة الخارجية لبايدن" (الذي يتحضّر لحملة انتخابية لولاية ثانية العام المقبل)، هو ما حذّرت منه صحيفة "وول ستريت جورنال"، في تقرير لها أمس الثلاثاء، متحدثة عن أن بطء الهجمة المضادة للقوات الأوكرانية قد يشكل اختباراً لاستراتيجية بايدن، التي تقوم خصوصاً على أن تكون بلاده متسوقة الأسلحة لفائدة كييف، وتواصل ضخّ مليارات الدولارات من المساعدات والدعم العسكري لأوكرانيا، لتمكين كييف من التفاوض مع موسكو من موقع قوة.

ورغم الحماسة الغربية منقطعة النظير لإلحاق الهزيمة بموسكو، وهو ما تجاريها به عادة مراكز الأبحاث التابعة لها وتحضّ عليه، إلا أن تقرير "وول ستريت جورنال"، الذي استند إلى تصريحات مسؤولين أميركيين وغربيين، ليس الأول الذي يشكّك باستراتيجية بايدن. ففي 14 يونيو/ حزيران الماضي، كتب رافاييل كوهين، وهو مدير برنامج الاستراتيجيات والعقائد في "مشروع القوة الجوية" بمؤسسة "راند"، وجيان جانتيل، نائب مدير وحدة الأبحاث العسكرية في "راند"، في مجلة "فورين بوليسي"، أن استراتيجية "مشوشة" لبايدن قد تعيق الهجمة المضادة الأوكرانية وتصعّب على كييف الانتصار.

وتحدث التقرير عن أن السؤال السائد في واشنطن هو عما إذا كانت المساعدات لكييف ستستمر، وما إذا كان الكونغرس الأميركي جاهزاً للموافقة على ضخّ الأموال لأجل غير معلوم، أو سيكون في يوم ما أكثر مراقبة واشتراطاً لتمرير الدعم. هذا النوع من التحذيرات، أو التسريبات، أو المعلومات، يرى متابعون أنه سيزداد حدّة كلما اقترب موعد الانتخابات الأميركية الرئاسية في خريف العام المقبل، وهو ما سيكون أيضاً مادة دسمة للتداول بالنسبة إلى منافسي بايدن من الجمهوريين.

ورأى تقرير "فوريس بوليسي" حينها أنه بعد عام ونصف العام من الحرب "تبقى أهداف واشنطن النهائية غامضة"، وأن بايدن لم يوضح طبيعة "الكلفة" بقوله إنه سيدعم كييف "مهما كلّف ذلك". وينصح التقرير بأنه لتثبيت الردع على الولايات المتحدة مدّ كييف "دفعة واحدة" وسريعاً بالأسلحة الفتاكة وليس بالتقسيط ومع إطالة الوقت.

وتتمحور كل التقارير المنتقدة لسياسة بايدن، أو التي ترى فيها "غموضاً"، حول سؤال عن كيفية صياغة النهاية، وما الذي تريده واشنطن كخاتمة للأحداث: إعادة السيادة لأوكرانيا، أو إضعاف روسيا قدر الإمكان للتفرغ للصين؟

ولم تطرح "وول ستريت جورنال"، أمس، أي سؤال حول شكل النهاية المحتملة، بل اعتبرت أن بطء الهجوم المضاد يقلص الآمال بحصول مفاوضات لإنهاء القتال هذا العام، ويرفع شبح أن يصبح الصراع مفتوحاً، بحسب مسؤولين غربيين. ورأت الصحيفة أن جموداً محتملاً على أرض المعركة من شأنه أن يختبر استراتيجية بايدن المعلنة، التي تقوم على ضخّ مليارات الدولارات من المساعدات لكييف، كما من شأنه أن يتحدى قدرة الغرب المتواصلة على تأمين الأسلحة والعتاد الذي بدأ يتناقص في المخازن، وأن يفتح مجالاً لمزيد من الأصوات المعارضة للدعم الأميركي في الحرب.

وقال جون هربست، السفير الأميركي السابق في كييف، والمؤيد لتوسيع الدعم العسكري للجيش الأوكراني، لـ"وول ستريت جورنال"، إنه "من الأسهل بوضوح تأمين المزيد من الدعم عندما تكون الأمور سائرة بشكل جيّد على الأرض"، لكنه رأى أن إدارة بايدن "لا تملك الكثير من الخيارات سوى مواصلة تأمين السلاح". واعتبر هربست أن "أي تراجع، والسماح حتى بانتصار جزئي لروسيا، سيكون علامة إخفاق فارقة بسياسة بايدن الخارجية، يصبح معها الانسحاب الأميركي المذل من أفغانستان أمراً لا يذكر" مقارنة مع الخسارة في أوكرانيا.

وبحسب الصحيفة، فإن استمرار استراتيجية تأمين السلاح يحمل معه بعض المخاطر أيضاً، لافتة إلى أن بايدن وضع كل رهانه وأوراق اعتماد سياسته الخارجية في صراع يضعه في إطار المعركة بين الديمقراطية والاستبداد، ما جعله يوجّه بتأمين 43 مليار دولار من الدعم العسكري لكييف حتى الآن، لكنه يواجه تحديات في الكونغرس في هذا الإطار، من قبل بعض أعضاء الحزب الجمهوري.

ورأت الصحيفة أنه فيما يتجه بايدن لمعركة انتخابية رئاسية العام المقبل، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لديه أكثر من سبب ليستنزف الغرب، إذ إن اثنين من منافسي بايدن على الرئاسة، الرئيس السابق دونالد ترامب وحاكم ولاية فلوريدا الجمهوري رون ديسانتيس، كلاهما قد لمّحا إلى أنهما قد يضعان حدوداً للدعم العسكري المقدم إلى كييف.

من جهته، اعتبر توماس غراهام، الباحث في "مجلس العلاقات الخارجية" (مركز بحثي أميركي)، أن "الروس أكثر من سعداء للحديث عن استسلام أوكرانيا"، مضيفاً أنه لا يعتقد بأن موسكو "مهتمة بشكل جدي بأي محادثات حول حلّ للأزمة لن تفضي إلى هذا الاستسلام، أقلّه في الوقت الحالي".

وكان معهد "أتلانتك كاونسل" قد دعا في 11 مايو/ أيار الماضي، إلى "وضوح أكثر" في أهداف واشنطن، معتبراً أن الحديث عن "هزيمة روسيا" ليس في محلّه. ورأى مايكل أوبنهايمر، وهو الأستاذ في مركز الشؤون الدولية في جامعة نيويورك، في التقرير، أنه من الممكن القول إن "روسيا خسرت" حتى الآن، ولكنها لم تهزم، إلا "إذا اعتبرنا أن الهزيمة تعني استنزاف قوتها". كما اعتبر أن مهمة أوكرانيا "استعادة سيادتها"، وليس "إلحاق الهزيمة بروسيا"، الذي رأى رغم ذلك أنه "هدف يستحق العناء". وحذّر أوبنهايمر من أن الإدارة الأميركية تخاطر بخلق انطباع أن الولايات المتحدة ستكون راضية بسلام "هشّ وانتقالي" أو "جمود ميداني يواصل استنزاف قوة روسيا من دون تحقيق نصر أوكراني واضح بالضرورة".

وحذّر تقرير "وول ستريت جورنال" أمس، من الوضع ذاته. واعتبر أن الهجوم المضاد الأوكراني، الذي انطلق في بداية يونيو الماضي، هدفه استرجاع بعض الـ20 في المائة من الأراضي التي تحتلها روسيا في أوكرانيا، لكنه رأى أن هذا الهجوم لم يحقق حتى الآن اختراقاً قد يدفع الروس إلى طاولة المفاوضات.

وقال التقرير، الذي أعدّه غوردن لوبولد (مراسل الصحيفة في البيت الأبيض)، والمراسلان مايكل غوردن ووارن ستروبل، المختصان في شؤون الأمن القومي، إنه مع عدم إبداء لا روسيا ولا أوكرانيا حتى الآن أي رغبة بالتفاوض، فإنه ليس أمام البيت الأبيض إلا البقاء مزوداً للأسلحة، على أمل أن يحصل اختراق على أرض المعركة، أو أن تواجه موسكو مجدداً أزمة سياسية داخلية (على غرار تمرد "فاغنر").

ويعترف المسؤولون الأميركيون، بحسب "وول ستريت جورنال"، ببطء الهجوم المضاد، لكنهم يشددون على أنه من المبكر تقييم فعاليته، حتى تشرك أوكرانيا المزيد من فرقها المقاتلة، خصوصاً تلك التي جرى تدريبها على المناورات القتالية بالمدرعات، في قواعد أميركية في أوروبا. وقال مسؤول أميركي للصحيفة، إنه "إذا أشركوا قوات احتياطهم ولم تكن مفيدة، عندها سنحدّد كيفية المضي قدماً". لكن مسؤولاً أوروبياً رفيعاً اعتبر أن مهمة كييف "صعبة"، مضيفاً أن حكومته لا تتوقع كثيراً أن تكون القوات الأوكرانية قادرة على طرد القوات الروسية من كل شرق أوكرانيا أو استعادة شبه جزيرة القرم. وبرأيه، فإن المفاجآت حتى لو كانت دائماً واردة، إلا أنها ليست كذلك في هذه الحالة.

تحد آخر يواجه واشنطن وحلفاءها، هو تضاؤل مخزونات السلاح، وقال دبلوماسي غربي في العاصمة الأميركية للصحيفة إنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تقبل بفكرة أن الحرب لن تنتهي قريباً، وعلى الحلفاء أن يتحضروا لتأمين الأسلحة لصراع قد يستمر أعواماً قادمة أخرى. وأضاف: "الجواب على ذلك هو التحشيد الصناعي الذي يرسل إشارة واضحة إلى كييف وموسكو بأن الأوكرانيين سيكون لديهم دائماً السلاح الكافي الذين يحتاجون إليه". ما يجعل السؤال الآني هو: "هل يملك الحلفاء الإرادة لمواصلة الدعم، أو حتى توسعته، إذا ظلّت الهجمة المضادة دون توقعاتهم؟".