العدد 1572 /26-7-2023

مأمون عثمان

في غير السياق المقصود يفهم كثيرون تصريحات الفريق أول شمس الدين كباشي نائب القائد العام للجيش خلطا بين التفاوض بشأن ما هو عسكري أمني وبين الحوار السياسي حول مستقبل العملية السياسية بعد الحرب مثلما أن استئناف التفاوض تحت الوساطة السعودية الأميركية في جدة يفهمه البعض بأنه "عودة" إلى المنبر.

لكن في حقيقة الأمر أن الجيش السوداني لم يعلن انسحابا من المنبر ولكن الموقف المعلن من قبله والذي أخطر به الوسيطين بعد آخر الهدن التي وقّعت بين الطرفين -وهي الهدنة العاشرة- أن قوات الدعم السريع لم تلتزم بما وقّعت عليه، وهو الانسحاب من المواقع الحكومية والأعيان المدنية، والتي تتمثل في مراكز الخدمات من مستشفيات ومراكز صحية ومراكز خدمات المياه والكهرباء، بالإضافة إلى منازل المواطنين، ولذلك فشلت الهدن العشر ولم تصمد لساعات قليلة واستمر منوال القتال كما هو.

إن قراءة موقف الجيش السوداني لما يجري في جدة أنه "تفاوض" بشأن ما هو عسكري إنساني فقط، وهو ليس حوارا، وهو ما يُعنى بالشأن السياسي، وهذا متروك للحوار الموسع والشامل بين المكونات السياسية السودانية كافة

ويقول الجيش إن وفده المفوض بالملف سافر من جدة إلى جيبوتي لحضور قمة إيغاد الأولى، والتي عقدت في العاشر من يونيو/حزيران 2023، ومنها توجه إلى إثيوبيا استعدادا للمشاركة في قمة إيغاد الثانية بأديس أبابا، والتي عقدت في العاشر من يوليو/تموز 2023 لإنفاذ مخرجات قمة جيبوتي التي لم يشارك فيها لعدم الاستجابة لطلب السودان بضرورة تنحي الرئيس الكيني وليام روتو من رئاسة اللجنة الرباعية للإيغاد.

ولذلك، يُفهم تمسك القوات المسلحة السودانية بمنبر جدة وفقا لإشارة الفريق كباشي في حديثه لقناة الجزيرة ووصفه المبادرة السعودية الأميركية بأنها متقدمة، في إشارة ضمنية إلى فشل جهود إيغاد في القمتين السابقتين، وحتى إيغاد نفسها لم تقل إنها منبر بديل لمنبر جدة وإنما هو جهد داعم لمسار جدة، والدليل على ذلك حضور ومشاركة كامل وفد الرباعية الدولية، بما فيه المشاركة الأميركية السعودية رعاة منبر جدة.

وفي الإطار ذاته يُفهم الجهد المصري الذي نشط أخيرا في ملف الصراع السوداني باستضافة قمة دول جوار السودان التي عقدت بالقاهرة في 13 يوليو/تموز الجاري، كما أشارت القاهرة إلى أن جهدها يعد استكمالا للمساعي الإقليمية والدولية، في إشارة إلى جُهديْ جدة وإيغاد.

إن قراءة موقف الجيش السوداني لما يجري في جدة أنه "تفاوض" بشأن ما هو عسكري إنساني فقط، وهو ليس حوارا، وهو ما يُعنى بالشأن السياسي، وهذا متروك للحوار الموسع والشامل بين المكونات السياسية السودانية كافة.

وبناء على هذا الموقف فإن الجيش لا يريد للعملية السياسية أن تكون حكرا على قوى الاتفاق الإطاري التي ينظر إليها على أنها عبر سياساتها الإقصائية هي التي دفعت البلاد للحرب الضروس بتحالفها مع قوات الدعم السريع، مثلما أن الجيش لا يريد أن يمنح قوات التمرد صبغة سياسية بعد الحرب، وهو الذي يعتبرها مجرد قوة متمردة عليه، بل حتى الهدن العشر التي تم التوصل إليها في جدة لم تتم عبر التفاوض المباشر بين ممثلي الطرفين، ولعل الجميع لاحظ أنه حين تم التوصل إلى اتفاق حول إعلان جدة الإطاري لم يصافح الموقعون من الطرفين بعضهما وإن ألح الوسطاء على ذلك، لأن الجيش لا يعترف بأن لقوات الدعم السريع أي شرعية سوى أنها حركة متمردة عليه.

وبالعودة إلى قراءة تصريحات شمس الدين كباشي نائب القائد العام للجيش السوداني التي قال فيها إن حجم التآمر على البلاد كبير وإن القوات المسلحة تقوم بواجبها الدستوري فإن هذا يتوافق مع ذكره عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للجيش السوداني في خطابه عشية الأضحى الماضي.

وأرى من سياق تصريحات كباشي أن ساعة طي الصراع قد اقتربت عبر التفاوض والحوار، وأن طبخة سياسية يجري الإعداد لها على وشك النضوج من وحي تقدم الجيش السوداني في ميدان القتال العسكري وإن لم يتمكن من الحسم الكامل لتمرد الدعم السريع.

ومما يدلل على أن رؤية المكون العسكري للحل السياسي جاهزة قول الفريق كباشي إن المجلس منفتح على أي مبادرة جادة لوقف الحرب في إطار المحافظة على السيادة الوطنية ومؤسسات الدولة، وإن المبادرة السعودية الأميركية متقدمة، وإن موقف المجلس المبدئي يدعم الحوار السياسي الموسع والشامل، وهو الشرط الذي وضعه للحوار السياسي الموسع والشامل، وهي إشارة ضمنية إلى موت الاتفاق الإطاري الموقع مع قوى الحرية والتغيير، وأن الواقع السياسي بعد الحرب لن يكون كما هو قبل تاريخ 15 أبريل/نيسان 2023 عند اندلاع الحرب.

وقد حملت تصريحات الكباشي رؤية المؤسسة العسكرية لمستقبل العملية السياسية حينما قال بضرورة أن يفضي الحوار الشامل إلى تشكيل حكومة مدنية تقود المرحلة الانتقالية وتهيئ البلاد لانتخابات حرة ونزيهة، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، في إشارة إلى قرب الحل السياسي حينما قال "إن السودان يحتاج إلى جهود وطنية ومساندة خارجية لإعمار ما دمرته الحرب".

وليس بعيدا عن فكرة اقتراب الحل السياسي للصراع العسكري السوداني ما يُفهم من مبادرة الرئيس الكيني وليام روتو الاتصال بقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 15 يوليو/تموز 2023، والتي لم تكن متوقعة بحكم موقف القوات المسلحة السودانية الواضح والمعلن من روتو وتصنيفه بعدم الحياد في الصراع، والتي وصفت بالصريحة والقوية.

وقد نقل البرهان من خلالها إلى الرئيس الكيني أسباب تحفّظ حكومة السودان على رئاسة كينيا اللجنة الرباعية المكلفة، مثلما أكد له سيادة السودان على أراضيه، حيث لا يمكن إدخال قوات شرق أفريقيا (إيساف) دون موافقة حكومة السودان، وأن مليشيا الدعم السريع كانت مكونا ضمن القوات المسلحة وتمردت عليها.

ونقل البرهان إلى روتو استعداد الحكومة السودانية لوقف إطلاق النار متى ما استجاب المتمردون مع إخلاء مساكن المواطنين ومراكز خدمات المياه والكهرباء والطاقة والمستشفيات والأعيان المدنية والمقرات الحكومية.

وذهب رئيس مجلس السيادة السوداني في حديثه للرئيس الكيني إلى تأكيد تصريحات شمس الدين كباشي ذاتها لقناة الجزيرة على أهمية منبر جدة.

ولعل ما يدلل على اقتراب الحل السياسي اهتمام الجيش السوداني بدقة كتابة رؤيته السياسية لطي الصراع وسحب البيان الذي حمل خبر اتصال الرئيس الكيني بالبرهان من على موقع وكالة السودان للأنباء (سونا) التي انفردت بالبيان لإضافة عبارة "متى ما استجاب المتمردون" لإخلاء الأعيان المدنية، والتي لم تكن موجودة في البيان الأول، والحرص على عنصر الدقة لما ورد في البيان لصياغة رؤية متكاملة ودقيقة يدلل بحسب رأيي على اقتراب موعد تسوية شاملة لطالما حلم بها أهل السودان لطي صراع مسلح لم تشهد له البلاد مثيلا.