العدد 1596 /10-1-2024

امطانس شحادة

منذ بداية الحرب على غزة، رفعت الحكومة الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية سقف معاني الحرب على غزة وأهدافها، إلى درجة اعتبارها حرباً وجودية وحرباً على البيت وحرب "استقلال" ثانية لدولة إسرائيل.

تعريف الحرب بأنها حرب وجودية، والرد بحرب إبادة على قطاع غزة، وإعلان الحكومة الإسرائيلية أن ما كان قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لن يتكرر، يكبل أيدي صنّاع القرار والمؤسسة العسكرية، سياسياً وجماهيرياً، ويمنع أي مرونة في إدارة الحرب على غزة، ويدفع إلى تورط إسرائيل في رمال غزة، والدخول في "مسيرة حمقى" إسرائيلية جديدة (إذا استعرنا عنوان كتاب المؤرخة الأميركية باربرا توكمان).

هذا الوضع يصعّب أيضاً من إمكانية تراجع المؤسسة العسكرية والسياسية، في مطلبها تغيير الحالة الأمنية في الجبهة الشمالية وتراجع قوات "حزب الله" من الحدود، ويعقّد حالة الحرب المحدودة لغاية الآن مع الحزب. أي تراجع أو إخفاق في تحقيق الأهداف التي وضعتها إسرائيل، في كلتا الجبهتين، سيُعتبر تهديداً وجودياً على دولة إسرائيل، وفقاً للمفاهيم والذهنية الإسرائيلية.

هذه الاعتبارات تؤدي إلى الاستنتاج أن إسرائيل، أولاً، ستستمر في حربها الشعواء الإجرامية على غزة، ولو غيّرت أدوات الحرب وأسلوبها بعض الشيء، في بحثها عن صورة نصر تشبع الذهنية والنفسية الإسرائيلية المرتعبة. وثانياً، أن إسرائيل ستدفع إلى زيادة التوتر في الجبهة الشمالية، واحتمال الانتقال من حرب محدودة إلى حرب واسعة وصعبة في الشمال.

حالة الطوارئ خففت من الاحتقان السياسي العلني

حالة الطوارئ وتعريف الحرب كحرب وجودية، والإصرار على تحقيق أهداف الحرب، ساهمت في تأجيل المحاسبات السياسية وسؤال تحمّل المسؤوليات داخل إسرائيل، وأدت إلى إقامة حكومة طوارئ، وإلى كيّ وعي المجتمع الإسرائيلي بضرورة الوحدة والتماسك الداخلي، وتقليل حدة الخلافات السياسية والتصدعات.

بعد مرور ثلاثة أشهر على الحرب، وتزايد التوتر على الجبهة الشمالية، وعدم تحقيق إنجازات استراتيجية من أهداف الحرب، بدأت الحالة السياسية الداخلية تتبدل في الأسابيع الأخيرة.

يتعزز الانطباع بأن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يسعى لإطالة حالة الطوارئ واستغلالها لجني ثمار سياسية، وللعمل على بناء سردية وحملة إعلامية متكاملة لتحميل قيادات المؤسسة العسكرية مسؤولية الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، وتأجيل قضية الأسرى والمخطوفين في غزة.

كل هذا بدأ ينعكس على الحالة السياسية في إسرائيل وفي مواقف الأطراف السياسية، وبروز تصدعات لها علاقة بإدارة الحرب ونتائجها لغاية الآن، وتوتر علني بين رئيس الحكومة والمؤسسة العسكرية، وزيادة التململ لدى أجزاء من المجتمع الإسرائيلي من الحكومة ورئيسها، وتحركات تطالب بالتوجه فوراً لانتخابات جديدة.

تصعيد الخلافات مع المؤسسة العسكرية لخدمة أهداف نتنياهو السياسية

هاجم عدد من الوزراء المقربين من نتنياهو، في جلسة الحكومة المصغرة، الأسبوع الماضي، رئيس الأركان هرتسي هليفي، بسبب قراره تعيين فريق تحقيق حول أداء الجيش في 7 أكتوبر الماضي. وادعى الوزراء المقربون من نتنياهو أن الجيش يُجري تحقيقات وقت الحرب، بدل التركيز على إدارة الحرب.

إلا أن الهدف المبطن من هذا الهجوم كان مزدوجاً: أولاً، إن تصعيد الخلاف بين نتنياهو وقيادات الجيش استمرار لحملة منظمة يقوم بها نتنياهو بغية تحميل الجيش مسؤولية الإخفاق الكبير، وثانياً لمنع نقاش كان مقرراً في اجتماع الحكومة المصغرة حول "اليوم التالي" للحرب على غزة، والمتوقع أن يخلق توتراً سياسياً داخل الحكومة، يسعى نتنياهو لتفاديه.

كذلك يخشى نتنياهو ومقربوه من أن بدء تحقيق داخل الجيش قد يؤدي إلى مطالبة وزراء بالشروع أيضاً في تشكيل لجنة تحقيق لفحص الإخفاق الكبير في 7 أكتوبر، يمكن أن تتمحور حول أداء الحكومة عموماً ورئيس الحكومة خصوصاً، بحيث يمكن أن يتحول هذا الفحص إلى عامل عدم استقرار سياسي لحكومة نتنياهو.

الاختلاف والتوتر مع قيادات الجيش مفيد لنتنياهو سياسياً، ويخدم تحسين صورته أمام قواعد اليمين واليمين المتطرف، لذلك من المتوقع أن يستمر نتنياهو في إنتاج هذه الأزمات.

في المقابل، إنّ تصعيد التوتر مع المؤسسة العسكرية، وإدارة حملات إعلامية متنوعة ومتشعبة في وسائل التواصل الاجتماعي ضدها، بل حتى تجاه عائلات الأسرى والمخطوفين، كما بيّن تقرير موسع لصحيفة "هآرتس"، نشر أخيراً، لإبعاد تهم المسؤولية عنه واتهام كل الآخرين، يزيد من التوتر مع شريكه الجديد بني غانتس ويرفع احتمال انسحاب حزب "همحانيه همملختي" (المعسكر الرسمي) من الحكومة.

غانتس يعمل على بناء صورة الشخصية الرسمية المتزنة والمسؤولة في الظروف الحالية. وفعلاً نجح بذلك، كما تبين استطلاعات الرأي العام، التي تمنحه تفوقاً جدياً على حزب الليكود ونتنياهو شخصياً منذ بداية الحرب. كل الاستطلاعات تشير إلى حصول حزب غانتس على قرابة 35 مقعداً في الانتخابات المقبلة.

المعطيات المشجعة في استطلاعات الرأي العام، بالإضافة إلى عدم الرضى عن تصرفات نتنياهو وقت الحرب، وبداية انتقال الجيش إلى المرحلة الثالثة من الحرب على غزة، قد تقرب من انسحاب غانتس من الحكومة، ما قد يسرّع التوجه إلى انتخابات خلال الحرب. لكن هذا مشروط بحالة الجبهة الشمالية وتطوراتها، والمفروض أن تتضح خلال الأسبوع الحالي بعد انتهاء زيارة وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن لإسرائيل والمنطقة، الذي يرمي إلى منع توسيع الحرب المحدودة حالية في الشمال.

احتجاجات ومطالب بالتوجه الفوري إلى انتخابات مبكرة

بعد مرور ثلاثة أشهر على الحرب، بدأنا نشهد تنظيم تظاهرات تطالب بالتوجه إلى انتخابات عامة جديدة. ففي نهاية الأسبوع الماضي نظمت تظاهرات بمشاركة الآلاف، لأول مرة منذ الحرب، في عدة مدن إسرائيلية، منها تل أبيب وحيفا وقيسارية، مطالبة بالتوجه إلى انتخابات برلمانية فورية.

وقد ألقى عدد من سكان الشمال والجنوب النازحين، ومندوب عن أسر القتلى في 7 أكتوبر الماضي، كلمات في التظاهرات عبّروا فيها عن امتعاضهم من حكومة نتنياهو ونهجها، واتهموها بالفشل والإخفاق الكبير، وطالبوا بإجراء انتخابات فوراً. كذلك نظمت تظاهرة شبيهة الاثنين الماضي مقابل مدخل الكنيست في القدس المحتلة. هذه التظاهرات تشكل استمراراً للأجواء العامة في المجتمع الإسرائيلي وتراجع مكانة رئيس الوزراء.

وبيّن استطلاع رأي عام أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، نشر بداية الشهر الحالي، أن أغلب الإسرائيليين لا يؤيدون استمرار نتنياهو في منصبه رئيساً للحكومة بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

وأظهرت نتائج الاستطلاع تأييد 15 في المائة فقط من الإسرائيليين لاستمرار نتنياهو رئيساً للحكومة بعد الحرب على غزة، مقابل 23 في المائة عبّروا عن تأييدهم لأن يتولى غانتس المنصب. حالة عدم الرضى عن نتنياهو وأدائه بدأت تترجم في خطوات احتجاجية وتظاهرات في البلدات الإسرائيلية.

إلا أن مصير هذه الاحتجاجات مرهون بالوضع الأمني والعسكري، خصوصاً في الحدود الشمالية. لم تتضح نتائج المشهد الأمني والعسكري في الحرب على غزة لغاية الآن، لكن الجيش الإسرائيلي بدأ بالانتقال، ولو بشكل غير معلن ورسمي، إلى ما يسميه "المرحلة الثالثة" من الحرب على غزة. صيغة الحرب ستكون أقل همجية، وسيتراجع القصف الكثيف على مناطق غزة كافة، وستتراجع أعداد القوات الإسرائيلية داخل المناطق السكنية في القطاع، وسيتوجه الجيش إلى عمليات صغيرة محدودة وخاصة. كل هذا وما زال الجيش الإسرائيلي عاجزاً عن تحرير أيٍّ من الأسرى والمخطوفين، وعن إلغاء وجود حماس في غزة.

قد تكون هذه الظروف، والشعور باقتراب انتهاء الحرب بصيغتها الواسعة، عوامل دفع باتجاه بداية التحضيرات السياسية لدى اللاعبين في المشهد الحزبي في إسرائيل للمرحلة المقبلة، وتهيئة لإنهاء الشراكة في حكومة الطوارئ، وتوسع الاحتجاجات ضد الحكومة ورئيسها، ولو كان هذا وقت الحرب. هذا يفسر تصرف نتنياهو ووزرائه المقربين في جلسات الحكومة المصغرة، ويفسر تصريحات وتصرفات قيادات اليمين المتطرف، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ويفسر أيضاً تصرفات غانتس، وإدراك المجتمع الإسرائيلي أن الوقت حان لبدء التحرك في الشارع ضد حكومة نتنياهو.

إلا أن المتغير الأهم الذي سيحسم وجه الحراك والتطورات السياسية في الأيام المقبلة هو الحالة الأمنية في جبهة الشمال. يصرّح أغلب القيادات السياسية والأمنية بأن القرار لن يتأخر كثيراً وسيحسم الموضوع هذا الأسبوع، بعد زيارة بلينكن للمنطقة.

حينها على إسرائيل تحديد وجهتها، هل ستتجه نحو محاولة تحقيق هدف تغيير الحالة الأمنية على الحدود الشمالية عبر توسيع الحرب، أم ستستمر في المعادلات القائمة والحرب المحدودة وتأجيل الصدام الشامل؟ تصريحات القيادة الإسرائيلية، وفهمنا للذهنية والعقلية الإسرائيلية، وضغط المجتمع الإسرائيلي، وخصوصاً سكان الحدود الشمالية، يرجحون معاً كفة الخيار الأول. حينها، ستؤجل التصدعات السياسية والاحتجاج مرة أخرى إلى أن ينجلي غبار المعارك.