العدد 1571 /19-7-2023

بيار عقيقي

بُنيت هيكلية العصابات في شتى أنحاء العالم بالطريقة نفسها تقريباً: الانطلاق من الهيكلية العائلية، حتى لو أنها تطورت لاحقاً وأصبحت تضمّ أفراداً من خارج العائلة والمنطقة والبلد. ومع أن العديد من العصابات اندثرت أو ضعُفت على مرّ العقود والقرون، إلا أن نشوء غيرها مستمر. صحيح أن مصطلح المافيا التصق أساساً بالعصابات الإيطالية، إلا أنه صار تعبيراً "معولماً" يصح إطلاقه على جميع العصابات في العالم.

لم ينتهِ زمن العصابات بعد، أقلّه هذا ما تثبته الحقبة الحالية من عالمنا. ففي السنوات الأخيرة، راكمت العصابات، كل في منطقتها الجغرافية، تجارب جديدة. والحديث هنا عن العصابات التي تهدف إلى تحقيق الأرباح المادية لا المليشيات ذات العقائد السياسية والدينية. وسنحت الفرصة للعصابات لتطوير عملها في السنوات الأخيرة، بفعل تراجع الاقتصاد العالمي، وأيضاً بسبب خشية الناس عموماً من انهيار دائرة الأمان الخاصة بهم.

في 11 مارس/آذار 2011، هزّ زلزال بقوة 9 درجات، أفضى إلى تسونامي، الساحل الياباني. أدى الزلزال إلى مقتل أكثر من 19500 شخص. من المعروف أن اليابان على خط "حزام النار"، الممتد من أقصى جنوب تشيلي، صعوداً إلى أقصى الشمال الأميركي في ولاية ألاسكا، نزولاً إلى تخوم أستراليا ونيوزيلندا، ومتفرعاً إلى إندونيسيا.

غير أنه كان لافتاً، وبصورة علنية غير سرية، انكباب العصابات اليابانية المعروفة باسم "الياكوزا"، على تقديم المساعدات للناس، من دون أن تتعرّض لها الدولة. ولم يكن هذا الأمر مألوفاً في بلاد تحارب الجريمة باستمرار، لكنه شكّل أولى بوادر التعايش بين الدولة و"الياكوزا" بحجة "إنقاذ اليابانيين وإغاثتهم في زمن الزلزال".

كانت تلك المرة الأولى، أقله في زمن توسع وسائل الإعلام، التي تشكّل فيها السلطات الشرعية تحالفاً ضمنياً مع العصابات، لـ"هدف نبيل". ومن الطبيعي، وفقاً لهذه الحالة، أن تغض السلطات النظر عن الأعمال غير المشروعة للعصابات لبعض الوقت.

في زمن كورونا، اعتباراً من عام 2020، "ازدهرت" العصابات في شتى أنحاء العالم، لأسباب عدة، لكن أبرزها على الإطلاق هو توفير التدفق النقدي (cash flow)، أي المال المتحرك الذي يدخل ويخرج من الأسواق من دون الخضوع للضرائب، أي ما يُسمى بصورة فجّة "غسل الأموال".

وعادة، في أزمنة الازدهار، تحارب الدول غسل الأموال، كونه يقضي على جبايتها للضرائب من جهة، ويمنعها من الاستثمار في البنى التحتية والتعليم والطبابة من جهة أخرى. وهي أمور تُبعد الناس عن جني الأموال من السوق السوداء، عبر الخضوع لنظم الدولة التي تحميهم.

لكن في زمن كورونا، تدهور الاقتصاد العالمي بسبب الإغلاقات وتضرر سلاسل التوريد، وهو ما سمح للعصابات بالعمل أكثر، مع غض نظر من السلطات. ومن هذه العصابات، عصابة "ترياد" الصينية، التي تملك تاريخاً مشتركاً مع السلطات الصينية، وعادة ما تكون ذراعها الخفية في أي مهمة مصنّفة على أنها "قذرة".

تماماً مثلما كان دور "فاغنر" الروسية قبل تمردها على الكرملين في 24 يونيو/حزيران الماضي. واللافت أن "ترياد"، العاملة في الشرق الآسيوي بزخمٍ، نشطت في قمع المتظاهرين في هونغ كونغ، إبان الحركة الاحتجاجية في عام 2019، أي قبل إقرار قانون "الأمن القومي" الصيني، الذي قضى على إمكانية استقلال المنطقة. عمل "ترياد" لم يكن الأول من نوعه في هونغ كونغ، إذ سبق أن قامت بالمثل في عام 2014، حين انتفضت هونغ كونغ أيضاً.

نفوذ "ترياد" أدى إلى تشبيك علاقاتها مع السلطات الصينية والأمن الصيني، وفي هذه الفترة، شهدت الصادرات الصينية أكبر انخفاض لها منذ 3 سنوات، بنسبة تصل إلى 12.4 في المائة.

ومن الطبيعي أن بكين، التي تواجه الولايات المتحدة وتعمل على رفع ميزانيتها العسكرية، تحتاج إلى اقتصاد نقدي بصورة أكبر مما كان عليه من قبل، لتمويل الميزانية العسكرية وباقي قطاعات الإنتاج، بالتالي لن تحصل على الأموال المطلوبة من الأسواق الشرعية فحسب، بل أيضاً من أعمال "ترياد".

وإذا كان وباء كورونا قد كبح نمو الاقتصادات العالمية، فإن تأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا، التي بدأت في 24 فبراير/شباط 2022، أفضت إلى تدهور أرقام الاقتصاد الروسي من جهة، وتراجع أي فرصة لنمو الاقتصاد الأوكراني من جهة أخرى.

في الحالتين، بدت العصابات في البلدين أكثر قدرة على التحرك. يتشابه البلدان في أمر واحد: النفوذ الأوليغارشي الواسع، وهو نفوذ تفشى بعد استقلالهما عن الاتحاد السوفييتي، كييف في 24 أغسطس/آب 1991، وموسكو في 25 ديسمبر/كانون الأول 1991.

بعد الاستقلال، غرقت روسيا وأوكرانيا في جحيم الأوليغارشية، وإذا كانت كييف أكثر تداركاً للوضع، مع اندماج الأوليغارشيين في النظم الدولتية، والحصول على المناقصات الحكومية بقوة النفوذ، إلا أن الحال كانت مختلفة في روسيا. عمّ الفقر والجوع، تمكنت العصابات من الحصول على كل شيء حرفياً، من الأسمدة الروسية إلى الصناعات النووية، قبل وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة، الذي أعاد ضبط الإيقاع في روسيا.

أما في أوكرانيا، فإن التوجه السياسي نحو الغرب الذي طرحته أوساط ثقافية وسياسية واقتصادية في البلاد، سمح بنشوء قوة مواجهة للأوليغارش، وإن لم تصل إلى مبتغاها بعد.

وفي الحرب الأخيرة، نجح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في استغلال الشعور القومي الأوكراني لمواجهة روسيا، وتصفية الحسابات مع الأوليغارش والعصابات ومكافحة الفساد.

غير أن اللافت في العصابات الروسية والأوكرانية، هو تحالفهما المستمر على الرغم من تبدل الأوضاع السياسية، إذ تنشط في تجارة الرقيق، عبر نقل الأشخاص من أوروبا الشرقية إلى نظيرتها الغربية، وأيضاً في أنواع أخرى من التجارة غير المشروعة.

للافت أيضاً أن محور التعاون بين الطرفين منذ عقود، كان يتمحور في ميناء أوديسا الأوكراني على البحر الأسود. واليوم، وفي ظلّ حاجة روسيا الماسة إلى أموال من مصادر مختلفة، إذ لا تكفي مصادر "فاغنر" الأفريقية وحدها في تغذية المالية الروسية، فإن تحالف العصابات الروسية والأوكرانية سيكون مهدداً في المستقبل.

في فرنسا، كان مهماً ما فعلته عصابات المخدرات في وقف أعمال الشغب التي تلت مقتل الشاب نائل المرزوقي في 27 يونيو الماضي، التي أثرت على "دورتها الاقتصادية". الأهمية هنا، أن السلطات الفرنسية استفادت من وقف أعمال الشغب، للتخفيف من حدة الخسائر السياسية للرئيس إيمانويل ماكرون وفريقه، وأيضاً الاقتصادية، بفعل تجاوز قيمة الأضرار التي تسببت بها الاحتجاجات نصف مليار يورو.

هل ستقوم فرنسا بردع عصابات المخدرات؟ لا أحد يعلم، لأن التركيز السياسي الفرنسي حالياً يتمحور حول تثبيت دعائم ولاية ماكرون الثانية، خصوصاً حين يبدأ مفعول رفع سن التقاعد في الخريف المقبل، وأيضاً في تأمين الأموال لدعم الميزانية العسكرية المتزايدة.

العصابات ستبقى أساساً لاقتصاد نقدي متحرك، يُدخل الأموال إلى باريس، سواء في القارة الأوروبية، أو في مناطق خلف البحار من بولينيزيا الفرنسية في المحيط الهادئ إلى غويانا الفرنسية في أميركا الجنوبية، وما بينهما من جزر ودول في القارة الأفريقية وأميركا الوسطى.

في الإكوادور، تزايدت، وعلى غير العادة، حروب العصابات في الشوارع والسجون، مودية بحياة الكثير من المدنيين والمجرمين. وأيضاً في فنزويلا، شكّل التعاون بين جيشها وعصابات المخدرات الكولومبية نموذجاً في تأمين الأموال للجهتين، حين كانت كراكاس خاضعة للعقوبات الأميركية، قبل تخفيفها في أواخر العام الماضي.

التعاون بين الجيش الفنزويلي والعصابات الكولومبية سمح في تأمين الأموال الصعبة لفنزويلا، التي أفسحت المجال في مايو/أيار 2022، في دولرة الاقتصاد، الذي أراح الفنزويليين.

في المكسيك، حيث تتمركز أعتى العصابات، خصوصاً على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، وتساهم في الهجرة غير النظامية وتهريب المخدرات، لا يبدو أن الأمور جدّية في محاربتها لاعتبارات عدة. والسبب هو الحاجة الأميركية الدائمة ليد عمل رخيصة، وحاجة العمال في أميركا الوسطى، المكسيكيين خصوصاً، إلى الهروب من واقعهم.

تلاقي المصالح هنا، نابع من عمل العصابات المكسيكية على تهريب البشر إلى الداخل الأميركي. تسمح مشاركة اليد العاملة الرخيصة، في تأمين دورة اقتصادية لا تحتاج إلى دفع أموال صحية أو للتأمين، فضلاً عن هاجس العامل الأجنبي، غير الشرعي وفق عقود العمل، من الترحيل.

ومع أن الصور والفيديوهات التي انتشرت في الأسابيع الأخيرة عن تحرك متزامن للجيوش الأميركية والمكسيكية والكندية، وُضعت في خانة ضرب العصابات المكسيكية، إلا أنه طالما أن الوضع الاقتصادي العالمي غير مستقر حالياً، فإن أي حرب ضروس ضد العصابات يُستبعد أن تحصل.

في هايتي، أصبحت العصابات على طاولة نقاشات مجلس الأمن الدولي، الذي يدرس إمكانية نشر قوات شرطة أممية لمواجهتها. هايتي في الأساس تتقاسم مع جمهورية الدومينيكان جزيرة "هيسبانيولا"، وتعاني منذ عقود طويلة من أزمات سياسية واجتماعية وطبيعية متلاحقة، غير أن الوضع الحالي فيها لم يعد طبيعياً، مع إطباق العصابات على ما تبقى من مفاصل اقتصادية في البلاد. لكنها في المقابل، تساهم في تأمين التدفق النقدي إلى الناس، ولو كان ثمن ذلك سفك الدماء.

الاقتصاد النقدي أمر يعلمه لبنان جيداً، إذ في ستينيات القرن الماضي، تحدث الرئيس الراحل فؤاد شهاب عن مداخيل غير شرعية إلى لبنان، أسهمت في نموه الاقتصادي. ومن هذه المداخيل، تهريب الحشيشة وغسل الأموال.

الاقتصاد غير الشرعي في بيروت، برز أيضاً في سني الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990)، وأيضاً في الأيام الحالية، مع تحول التدفق النقدي الدولاري إلى منفس للبنانيين للبقاء على قيد الحياة.

المفارقة هنا، أنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها التعاطي بين الدولة والعصابات، ففي الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، قرر الحلفاء، القيام بإنزال في جزيرة صقلية الإيطالية، لإسقاط حكم الدوتشي بينيتو موسوليني. كانت هناك عقبة: المافيا الإيطالية في هذه الجزيرة.

عملت البحرية الأميركية على التواصل مع أشهر زعماء المافيا الإيطالية في الولايات المتحدة، تشارلز "لاكي" لوتشيانو، الذي كان مسجوناً في حينه. ساهم لوتشيانو في أمرين: الأمر الأول في حماية الشواطئ الأميركية من أي اختراق لعملاء ألمان، موالين لأدولف هتلر، وإيطاليين، موالين لموسوليني.

الأمر الثاني، هو تقديم لوتشيانو خدماته للجيش الأميركي، عبر إجراء اتصالات مع المافيا في صقلية، سمحت بتأمين التواصل مع الأميركيين، وبالتالي تعبيد الطريق أمامهم لدخول صقلية. النتيجة كانت السماح للوتشيانو بمغادرة الولايات المتحدة والسكن في إيطاليا.