فهمي هويدي

هل يعقل أن تنجح مصر ذات يوم في توفير ٨٥٪ من احتياجاتها الدوائية محلياً، بعد أن كانت النسبة ٥٪ فقط، ثم بعد مضيّ نصف قرن تنتكس بحيث تعود مرة أخرى إلى حدود الخمسة بالمائة، ويصبح اعتمادها شبه الكلي على الشركات الأجنبية؟ هذا السؤال تثيره الشهادة المثيرة التي سجلتها خبيرة صناعة الأدوية التي عاصرت تلك المرحلة، الأستاذة ناهد يوسف في مقالة نشرتها جريدة «الشروق» يوم ٣٠ نيسان. وما أدهشني ليس فقط كمّ المعلومات الصادمة التي ذكرتها، وإنما أيضاً أن ما قالته لم يحرك شيئاً في دوائر المسؤولين والغيورين على هذا البلد، فإن أحداً لم يحاول التحقق من صحة تلك المعلومات، حتى أزعم أن الاهتمام بالموضوع لم يحظ بعشر معشار صدى هزيمة الفريق القومي لكرة القدم في أية مباراة إفريقية أو عربية، رغم أن ما جرى في موضوع الدواء يعدّ هزيمة منكرة.
تحت عنوان «صناعة الدواء.. مفارقة صادمة..   كيف كنا وكيف أصبحنا؟»، ذكرت ناهد يوسف ما يلي:
 نهضة صناعة الدواء انطلقت على أيدي الدكتور النبوي المهندس الذي تولى وزارة الصحة بين عامي ٦١ حتى ١٩٦٨، إذ قادت مؤسسة الأدوية التي أنشئت في عهده عام ١٩٦٢ حملة توفير الدواء لـ٥٠٠ وحدة صحية منتشرة بالقرى، واستعانت في ذلك بالمصانع الصغيرة التي كانت موجودة آنذاك، إلى جانب تأسيس شبكة من ثمانية مصانع جديدة، وكان الهدف الموضوع هو زيادة إنتاج المستحضرات الدوائية من ٥٪ إلى ٨٥٪.
في تلك المرحلة أيضاً أنشئت أكبر شركة لصناعة الدواء في الشرق الأوسط «شركة النيل للأدوية»، التي بني مصنعها العملاق خلال عامين، وتولى الخبراء المصريون تصميم وتصنيع كافة المستحضرات الدوائية اللازمة لمختلف التخصصات، ووفرت مؤسسة الأدوية الحماية اللازمة لتلك الصناعة في مواجهة شركات الأدوية العملاقة التي عملت جاهدة لإفشالها، لأن مصر كانت تستورد منها معظم احتياجاتها من الأدوية والخامات.
اهتمت مؤسسة الأدوية بصناعة الكيماويات الدوائية، وحين لم تنجح محاولات الحصول على حق المعرفة من المصانع الغربية، فإن مصر اتجهت إلى التعاون مع روسيا واستطاعت إنشاء مصنع لإنتاج المضادات الحيوية والسلفا ومشتقاتها والاسبرين.
خلال أقل من عشر سنوات كانت تلك الجهود قد حققت الهدف المنشود. وأصبحت المصانع المصرية تغطي ٨٥٪ من الأدوية وبعض خاماتها، إذ صارت تنتج نحو خمسة آلاف صنف من الحقن والأقراص والسوائل والمراهم والمحاليل. وكان لكبار أساتذة الطب والصيدلة دورهم في تصميم وتعديل الكثير من تركيبات المستحضرات بما يناسب أمراض المصريين وخصوصياتهم.
بعدما أصبح في مصر ١٢٠ مصنعاً للدواء، تعرضت الصناعة لحملة تفكيك ممنهج منذ السبعينيات، إذ في ظل سياسة الانفتاح والخضوع لتعليمات البنك الدولي تحول الاقتصاد المصري بصورة تدريجية من الاستقلال إلى التبعية. وشنّت شركات الأدوية العملاقة هجوماً ضارياً ضد صناعة الدواء المصرية، حتى صارت نسبة المنتج المحلي من الداوء ٥٪ مرة أخرى، وأصبحت نسبة لا تقل عن ٤٠٪ من الأدوية تصنع في المصانع المصرية لحساب الشركات الأجنبية والباقي يستورد من الخارج، وصارت تلك الشركات تحوّل أرباحها للخارج بالعملات الصعبة، دون أن تبني مصنعاً أو تعين عاملاً، ودون أن تضيف مستحضراً محلياً لعلاج أمراض كالسرطان بدلاً من الاعتماد في ذلك علي الاستيراد.
إذا صح ما سبق فمعناه أننا منينا بهزيمة ساحقة في معركة تصنيع الدواء. لذلك فإن التدقيق في المعلومات وتقصّي حقائق تلك المرحلة يصبح من الأهمية بمكان، إذ الهزيمة هذه المرة لم تكن ثمرة مؤامرة دبرها الخصوم، لأنها كانت صناعة محلية تمت على أيدي «أهل الشر» في الداخل، من المهملين والفاسدين والمستوردين الذين ارتكبوا جريمتهم ثم أفلتوا من الحساب والعقاب.
إننا إذا وسعنا الدائرة فسوف نلاحظ أن ما جرى في نكسة الدواء له نظيره في مجالات أخرى، تشمل الزراعة والصناعة والتعليم والإعلام، وغير ذلك مما لا أستطيع ذكره.
إن مساحة اللامعقول أكبر بكثير مما نتصور و«نكسة» عام ١٩٦٧ لم تكن الوحيدة في مصر المعاصرة، لأننا لا نملك شجاعة نقد الذات ونستعذب تضخيمها والدفاع عن الوطن بحناجرنا وليس بسواعدنا.}