العدد 1579 /13-9-2023

امطانس شحادة

بعد مرور ثلاثين عاماً على توقيع اتفاق أوسلو، باتت إسرائيل مختلفة تماماً، اقتصادياً وصناعياً، وسياسياً. اتفاق أوسلو شكّل بوابة إسرائيل للاقتصاد العالمي، ومدخلاً لتغيير الاقتصاد الإسرائيلي، من جهة، ولتعميق وتوسيع الاستيطان بشكل كبير من جهة أخرى. بذلك تم الفصل بين اندماج إسرائيل بالاقتصاد العالمي وإنهاء الاحتلال، إذ تبيّن أن الاندماج في الاقتصاد العالمي، وجني ثمار المفاوضات، وترتيب مكانة إسرائيل الدولية، تحتاج فقط إلى عملية مفاوضات بدون الوصول إلى اتفاق نهائي وإنهاء الاحتلال. كذلك نقل اتفاق أوسلو عبء الاحتلال الاقتصادي من إسرائيل إلى الدول المانحة، بحيث بات الاتحاد الأوروبي المموّل الأساسي للسلطة الفلسطينية وبعده الإدارة الأميركية والدول العربية.

إسرائيل نجحت في استغلال مرحلة أوسلو لتغيير مكانتها الدولية، وإلغاء المقاطعة العربية، وإنشاء علاقات دبلوماسية مع دول عظمى مثل الصين والهند والعديد من دول أميركا الجنوبية وأفريقيا. فعلى سبيل المثال بعد انتقال العلاقات مع الصين من السرية إلى الرسمية العلنية بداية التسعينيات، ارتفعت الصادرات الإسرائيلية إلى الصين من أقل من 200 مليون دولار إلى قرابة 4 مليارات دولار في السنوات الأخيرة.

كذلك ارتفعت الصادرات إلى الهند من نحو 150 مليون دولار إلى قرابة 1.1 مليار دولار في السنوات الأخيرة. فضلاً عن صفقات بيع الأسلحة الهائلة مع الهند. بالإضافة إلى فتح عدد كبير من الدول العربية أسواقها أمام المنتجات والسلع الإسرائيلية، خصوصاً الخدمات والمعدات الأمنية، والاحتكار شبه الكامل للمنتجات الإسرائيلية في الأسواق الفلسطينية، بحيث بلغ مجمل الصادرات الإسرائيلية إلى مناطق السلطة الفلسطينية قرابة 5 مليارات دولار سنوياً في الأعوام الأخيرة، والصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل قرابة 1.5 مليار دولار.

الاقتصاد الإسرائيلي استفاد بشكل كبير من عملية المفاوضات، والاندماج بالعولمة، وتغيّر بنيته من اقتصاد يعتمد على الصناعة التقليدية والزراعة والصناعات العسكرية، إلى اقتصاد حديث يعتمد على صناعات متطورة، صناعات التقنيات الحديثة والخدمات. وتضاعفت الصادرات الإسرائيلية إلى الأسواق العالمية، وارتفعت الاستثمارات الخارجية في الاقتصاد الإسرائيلي، وانضمت إسرائيل إلى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي بدون أي شرط سياسي أو علاقة باستمرار الاحتلال.

تشير معطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية إلى أن مجمل صادرات الصناعات الإسرائيلية عام 1990 بلغت 7.8 مليارات دولار، منها 2.3 مليار من صناعات التكنولوجيا العالية، بينما بلغت الصادرات الصناعة عام 2021 قرابة 50 مليار دولار، منها قرابة 20 مليار صناعة تقنيات حديثة متطورة (أي قرابة 40 في المائة من مجمل الصادرات). وارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إسرائيل من قرابة 5 مليارات دولار منتصف التسعينيات إلى قرابة 28 مليار دولار في الأعوام الأخيرة. كذلك ارتفع الناتج المحلي للفرد الواحد من قرابة 18 ألف دولار عام 1992 إلى قرابة 54 ألف دولار عام 2022. وبات الاقتصاد الإسرائيلي شبيهاً من حيث الناتج المحلي ومستويات المعيشة مع الدول الأوروبية الرائدة اقتصادياً.

السيطرة على الموارد

النمو الاقتصادي الكبير وتوسع علاقات إسرائيل الدبلوماسية، كان بالتوازي مع توسيع وتعميق الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ اتفاق أوسلو. إذ احتفظت إسرائيل بالسيطرة الكاملة على الأراضي الفلسطينية، وعلى مصادر المياه، وعلى الحدود، وبذلك السيطرة على الصادرات وتنقّل الفلسطينيين.

بداية الاستيطان الإسرائيلي في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة في سبعينيات القرن الماضي، كان محدوداً وعلى نطاق ضيّق، وتركز في مواقع معينة مثل المعسكرات السابقة للجيش الأردني، والمواقع التي سبق لليهود أن أقاموا فيها مثل كيبوتس كفار عتصيون في الخليل. كما تركز أيضاً في مدينة القدس ثم ما لبث أن امتد إلى سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة الأخرى، بقيادة حكومات حزب العمل.

بعد أن صعد تكتل "الليكود" إلى الحكم عام 1977، اتخذت العمليات الاستيطانية في الأراضي العربية المحتلة طابعاً هجومياً، وبدأت تتخذ استراتيجية مختلفة تماماً عن تلك التي تبنّاها حزب العمل سابقاً. فبعد أن كانت المستوطنات تقام تحت ستار الدوافع والاعتبارات الأمنية، تغيّرت واختلطت بأسباب تاريخية وعقائدية، إذ رفع تكتل "الليكود" اليميني شعار أرض إسرائيل المحررة وحق جميع أفراد الشعب الإسرائيلي في الاستيطان في كل جزء منها، وذلك من أجل خلق كثافة سكانية يهودية للحيلولة دون إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقبلاً في تلك الأراضي. وقفزت وتيرة الاستيطان بخطوات نوعية بعد "معاهدة السلام" المصرية الإسرائيلية، وبعد اتفاق أوسلو، و"معاهدة السلام" الإسرائيلية الأردنية.

يمكن اعتبار مرحلة ما بعد اتفاق أوسلو قفزة نوعية في أعداد المستوطنين، وإقامة الطرق الالتفافية، وإقامة مناطق صناعية. وارتفع عدد المستوطنين من قرابة 90 ألفاً عام 1989 إلى 100 ألف عام 1991، و154 ألفاً عام 1996 قبل انتخاب بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء، ومن ثم إلى 205 آلاف عام 2000، و327 ألفاً عام 2010، إلى أن بلغ عدد المستوطنين عام 2022 قرابة 470 ألف مستوطن، بدون المستوطنين في أحياء القدس الشرقية.

كذلك نجحت إسرائيل في انتزاع اعتراف أميركي بأن "القدس الموحدة" هي عاصمة دولة إسرائيل، ونُقلت السفارة الأميركية إلى القدس، تلاها عدد قليل من الدول. بذلك تعمل إسرائيل على إخراج القدس من سياق الاحتلال، وتضاعف عدد المستوطنين في أحياء القدس الشرقية بدون أي اعتراض دولي، سعياً منها لفرض أمر واقع في القدس الشرقية.

شكّلت القضية الفلسطينية والاحتلال أبرز مواضيع التصدع السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي لغاية مفاوضات السلام واتفاق أوسلو. إلا أنه منذ الانتفاضة الثانية (2000-2005)، وجني إسرائيل ثمار أوسلو الاقتصادية، والاندماج بالاقتصاد العالمي، وتوسع علاقاتها الدبلوماسية العالمية والعربية، جرى تحوّل في مواقف الأحزاب الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي تجاه الاحتلال والمستوطنات، وإمكانية حل سلمي للقضية الفلسطينية. وبات هناك شبه إجماع لدى الأحزاب والمجتمع اليهودي بعدم إمكانية التوصل إلى اتفاق سلمي مع الطرف الفلسطيني، ولم يعد هناك حديث عن إقامة دولة فلسطينية، لدى الأحزاب الصهيونية المركزية.

بعد ثلاثين عاماً من أوسلو، يُلاحَظ أن التيارات السياسية والأحزاب في إسرائيل لا تستأنف بالمجمل على طبيعة النظام الاستعماري، بل تتنافس حول حدود هذا المشروع وطبيعته؛ ففي أقصى "اليسار" الصهيوني نجد أن حزب "ميرتس" يكتفي بمشروع استعماري داخل حدود الـ48، ويعتقد بأن المشروع الاستعماري نجح وانتصر في هذه الحدود ويجب الاكتفاء بذلك، ويرى أن إنهاء الاحتلال لمناطق الـ67 هو إعلان انتصار المشروع واكتماله؛ بينما يرى حزب العمل، الذي يصارع على البقاء في المشهد السياسي، أنه يمكن الاكتفاء بانتصار المشروع في حدود الـ48 مع الإبقاء على كتل المستوطنات في مناطق الـ67، أي الحفاظ والاكتفاء بما تحقق لغاية الآن، بغية انتزاع الشرعية العالمية والفلسطينية. ولا يختلف حزبا "يوجد مستقبل" و"المعسكر الرسمي" في طرحهما كثيراً عن حزب العمل.

أما حزب الليكود وأحزاب اليمين المتطرف الأخرى، فتريد ضمان الاستعمار والسيطرة على مناطق الـ48 وضم قسم كبير من مناطق الـ67، بدون أن تعطي الفلسطينيين حق تقرير المصير، بل بدون الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني أصلاً. بذلك يتوسع المشروع الاستعماري لأسباب عقائدية ودينية، ويسعى إلى حسم الملف وانتزاع شرعية للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بالقوة وبالقوننة. وقد يكون حزب "الصهيونية الدينية" برئاسة بتسلئيل سموتريتش وحزب "القوة اليهودية" برئاسة إيتمار بن غفير الأوضح في هذا الصدد. "اتفاقيات إبراهيم" والتطبيع العربي يعززان موقف اليمين المتطرف وادعاءاته أن السلام مع الدول العربية لا يمر بالضرورة عبر إنهاء الاحتلال، وأن عقيدة الأرض مقابل السلام انتهت.

بهذا المعنى، منذ الانتفاضة الثانية ولغاية السنوات الأخيرة، لم يعد موضوع الاحتلال والاستيطان يشكّل تصدعاً مركزياً في المشهد السياسي الإسرائيلي، وتحول النقاش إلى كيفية إدارة الصراع أو تقليصه، بدون الحاجة لحل الصراع.

إسرائيل الحالية بقيادة اليمين المتطرف تحوّلت إلى نظام اقتصادي نيوليبرالي، ونجحت بالاندماج في الاقتصاد العالمي، وتراجعت فيها التصدعات السياسية، وبنت علاقات دبلوماسية واسعة مع غالبية دول العالم، وباتت دولة طبيعية مقبولة عالمياً، بدون ربط ذلك بإنهاء الاحتلال. بل إنها تسعى لحسم ملف الاحتلال عبر إنكار وجوده وتطبيعه.

في الواقع السياسي الحالي في دولة إسرائيل، ومحاولة الحكومة الحالية بقيادة اليمين الاستيطاني المتطرف حسم ملف طبيعة هوية إسرائيل، كدولة يهودية بالأساس، وتقييد الجهاز القضائي، وتديين الدولة وفرض هيمنة اليمين المتطرف الاستيطاني على كافة مفاصل اتخاذ القرار في إسرائيل، وحسم قضية الاحتلال عبر الضم وإنتاج نظام فصل عنصري رسمي، أنتج ذلك رد فعل معارض من التيارات الصهيونية العلمانية وما تبقّى من تيارات ليبرالية، التي تريد الحفاظ على هوية وطابع إسرائيل كدولة "يهودية وديمقراطية" تحافظ على التوازن بين الدين والدولة والحقوق الفردية.

إلا أن هذه التيارات المعارضة لم تستوعب بعد التناقض الكامن في هذه المعادلة، وأن هذه المعادلة هي التي جاءت باليمين المتطرف إلى السلطة، وأنه لا يمكن فك الارتباط بين هوية وطابع دولة إسرائيل وبين الاحتلال. فإذا كان اتفاق أوسلو فكّ الارتباط بين الازدهار والنمو الاقتصادي والاحتلال، واعتقد المجتمع في إسرائيل أنه بالإمكان تحويل إسرائيل إلى دولة طبيعية، فيمكن أن يعيد التصدّع الحالي حول الخطة الحكومية لتقييد القضاء، حسم قضية الاحتلال، ويعيد الارتباط بين الحالة السياسية الداخلية وبين الاحتلال، وقد نكون أمام مرحلة سياسية مختلفة عن العقود الثلاثة الماضية.