غازي التوبة

مثّل الربيع العربي ثورة على الاستبداد المعاصر الذي كان موجوداً في عدد من أنظمة البلاد العربية، مثل نظام حسني مبارك في مصر، ونظام زين العابدين بن علي في تونس، ونظام القذافي في ليبيا، ونظام الأسد في سوريا، ونظام علي عبد الله صالح في اليمن.. إلخ.
لقد أذل الاستبداد المعاصر الشعوب في العالم العربي وأفقرها، وجعلها تلهث وراء لقمة العيش، وملأ حياتها خوفاً ورعباً من أجهزة المخابرات التي زرعها في كل جنبات الوطن، وربط بها كل تحركات المواطن من بيع وشراء واستثمار وسفر وتوظيف وتعلم.. إلخ، وحوّل حياته إلى كوابيس مستمرة لا يصحو من كابوس حتى ينام على كابوس آخر.
وإذا تفحصنا هذا الاستبداد الذي ثارت عليه الشعوب العربية وحللنا العوامل التي قام عليها، نجد أنه قام على أسوأ ما جاءنا في العصر الحديث من مفاهيم وأفكار ومبادئ، وكذلك استورد أسوأ ما هو موجود وقائم في العصور القديمة. ومع الرصيد الضخم الذي يمتلكه الاستبداد المعاصر من أسوأ مفاهيم العصر الحديث والعصور القديمة، فإنه انهزم أمام إرادة الشعوب، وظهرت سوءاته في الربيع العربي، فما هي مصادره من مفاهيم العصر الحديث؟ وما هي مصادره من العصور القديمة؟ وكيف انهزم أمام ثورة الشعوب؟ 
أولاً: مصادر الاستبداد
لقد جمّلت أنظمة الاستبداد نفسها، فارتبطت بأحدث المبادئ والمفاهيم والأفكار التي قامت عليها أوروبا في العصر الحديث، من مثل العلمانية والاشتراكية والليبرالية والديمقراطية والحرية..إلخ، لكنها اختارت أسوأ ما في هذه المبادئ والمفاهيم والأفكار فطبقتها، ولم تأخذ الجوانب المشرقة والإيجابية منها.
ففي مجال العلمانية هناك علمانيتان، فرنسية يعقوبية وأخرى أنغلوساكسونية، الأولى: تتدخل في عقائد الأفراد وسلوكهم، وتفرض عليهم مبادئ معينة وسلوكاً معيناً، والثانية: لا تفعل ذلك.
واختارت الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي -بكل أسف- العلمانية الفرنسية اليعقوبية، وأبرزها: نظام البعث في سوريا والعراق، والقذافي في ليبيا، وبو رقيبة في تونس، وكمال أتاتورك تركيا.. إلخ.
فمن الواضح أن أتاتورك قد طبق العلمانية الفرنسية أسوأ تطبيق، فقد فرض السفور على المرأة، وفرض «البرنيطة» (القبعة) على الرجل، وفرض ربطة العنق على كل من يدخل البرلمان. وكذلك ألغى بورقيبة التعليم الديني، وفرض البعث السوري السفور في المدارس.
وقد ربط الاستبداد المعاصر ذاته بالحداثة، فأخذ أسوأ ما فيها، وهو أدواتها القمعية وأجهزتها الرقابية، ولم يأخذ منها قيمها الإنسانية كالمساواة وحقوق الإنسان، وكذلك إغناء الجانب المدني في المجتمع، من أجل الابتعاد عن تغول الحكومة وسلطتها، لذلك كانت دول الاستبداد المعاصر من أسوأ الدول قمعاً وإرهاباً وتخويفاً لشعوبها، وأشدها بطشاً وترويعاً.
وقد ربط الاستبداد المعاصر نفسه بالديمقراطية فأخذ عنوانها ليحسّن صورته، وربط ذاته ببعض آلياتها كالانتخابات، مع القيام بتزويرها في أغلب الأحيان، وابتعد عن الآليات التي تحقق الأمان للمجتمع والابتعاد عن الاحتقان كآلية تداول السلطة، والقضاء النزيه، لذلك انتهت هذه الدول المستبدة بتوريث المستبد الحكم لابنه كما في سوريا واليمن ومصر، وإن لم يكن للحاكم ابن فالتوريث لزوج ابنته كما في تونس..
وقد ربط الاستبداد المعاصر ذاته بالاشتراكية، لكنه أخذ منها أسوأ ما فيها، وهو قولها بضرورة الحزب الواحد، وبحتمية الصراع الطبقي وقيام ديكتاتورية البروليتاريا واستئصال البرجوازيين الرجعيين، لذلك قامت الأنظمة الاستبدادية في سوريا والعراق وتونس ومصر على الحزب الواحد، والتصريح بالحزب القائد، ولم تأخذ قيم العدل الاقتصادي الذي قامت الاشتراكية من أجله، لذلك أصبح الشعب أكثر فقرا في الدول التي طبقت الاشتراكية، مع أنه يفترض أن يصبح أكثر غنى وأكثر رفاهاً.
وقد أخذ الاستبداد المعاصر من القومية أسوأ ما فيها، وهو شوفينيتها وتعصبها العرقي المقيت، ولم يأخذ جانبها الإنساني، لذلك مارس الحكم القومي العربي البعثي الاضطهاد للأكراد في العراق وسوريا، حتى وصل الأمر إلى حد تجهيز حملة عسكرية في العراق باسم «الأنفال» في عهد البعث بعد عام 1968 من أجل محاربة الأكراد في جبال كردستان، واستعمال الكيميائي كما حصل في «حلبجة» عام 1988 من أجل القضاء عليهم.
ثانياً: الاستبداد من العصور القديمة
حفلت العصور القديمة بمفاهيم تغذي الحكومات المستبدة، وأبرز ما وصلنا من المفاهيم من الفرس وحكومات أوروبا الاقطاعية، ومن السلطة الكنسيّة، وتجسدت في عهد الذي كتبه أردشير ملك الفرس لولده، وتجسدت في رسالة «الصحابة» التي كتبها ابن المقفع الذي عمل لدى الأمويين والعباسيين ونقل مضمونها من التراث الفارسي والهندي، كما تجسدت في مقولات القديس بولس عن علاقة الرعيّة بالحاكم.
وقد نقل الاستبداد المعاصر من استبداد العصور القديمة أسوأ أقوالها وهو أن السلطة مقدسة، وأنها مطلقة، ويجب ألا تكون هذه السلطة محل اعتراض، وأنها أبوية بمعنى أن البشر يظلون قاصرين وينبغي الحجر عليهم، لأنهم لا يستطيعون تدبير شؤونهم بأنفسهم، وعبّرت عنها مقولات من مثل: «طلبنا من الله المدد فجاءنا بحافظ الأسد» التي قالها تجار الشام بعد «الحركة التصحيحيّة» التي قام بها حافظ الأسد عام 1970، ومن مثل مقولة: «قائدنا إلى الأبد، الفريق حافظ الأسد.»
ويمكن أن نذكر مثالاً آخر على حضور هذه المعاني من استبداد العصور القديمة، في شخصية بو رقيبة الذي نصب ذاته مجاهداً أكبر لا ينبغي المس به أو التطاول على زعامته الأبوية والانفرادية، وكذلك قدم ذاته على أنه المصلح الأكبر والمجتهد الذي يتدخل في الفتوى الدينية في أخص القناعات الفردية لمواطنيه.
ثالثاً: هزيمة الاستبداد
لقد اتبعت الحكومات الاستبدادية المعاصرة أسلوباً ممنهجاً من أجل إذلال الشعوب، وتطويعها وتركيعها، واستخدمت أرقى الآلات في المراقبة والرصد، لكن مع ذلك خرجت الشعوب بصدورها العارية من أجل التخلص من نير الاستعباد والاستبداد، وقدمت الدماء فداء لهذا التخلص، وقد كان الانطلاق الرئيسي لثورات الربيع العربي من المساجد، مع أن حكومات الاستبداد المعاصرة وضعت برامج وخططاً من أجل «تجفيف منابع الدين»، لكنها مع ذلك لم تفلح في تحقيق أهدافها، فلماذا؟
لم تفلح لأن القرآن الكريم الذي هو كتاب المسلمين الأول، استمر يتلى في العالم العربي والإسلامي، وهو الذي ولّد الإنسان العصي على الخضوع للاستبداد، ويمكن أن نضرب على ذلك بقصة موسى عليه السلام، ومواجهته لفرعون، فقد ورد الحديث عن موسى عليه السلام 136 مرة في القرآن الكريم، وقد وردت قصة المواجهة بينه وبين فرعون في عشرات الآيات والسور، وقد كان الأمر الذي أمر الله به موسى هو الذهاب إلى فرعون الذي وصفه بالطغيان، وكان ذلك في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: >اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَى< النازعات 17، وقد كان الأمر الأساسي الذي طلبه موسى عليه السلام من فرعون هو إطلاق بني إسرائيل وتحريرهم من عبوديته، فقال تعالى: >فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ< الشعراء 16-17.
وحدثت مواجهات بين موسى عليه السلام وفرعون، وحشد كل منهما لهذه المواجهة، ثم بيّنت السور والآيات انتصار موسى عليه السلام ونجاته ومن معه من بني إسرائيل، وغرق فرعون ومن معه من الجنود.
ليس من شك أن هذه القصة التي تلاها المسلمون على مرّ العصور، ويتلوها المسلمون -الآن- في عصور الاستبداد المعاصر بنت فيهم «بغض الطغاة»، وبنت فيهم ضرورة مواجهة هؤلاء المستبدين، وبيّنت لهم الزاد الذي يجب أن يتزوّدوا به من أجل مواجهة المستبدين، وهو طرد الخوف واستحضار معيّة الله سبحانه وتعالى، فقد قال تعالى: >اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلا لَيّنا لَعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالَا رَبّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافا إِنّني مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى< طه، 43-46.
لقد كان المسجد هو المعول الذي زلزل عروش المستبدين المعاصرين، لأنه احتوى القرآن الكريم، واحتوى العابدين الذين تلوا السورة التي علمتهم أن يكونوا كموسى عليه السلام في مواجهة فرعون، وأن يثوروا على المستبدين ويطلبوا تحرير شعوبهم.
الخلاصة: لقد قام الربيع العربي من أجل اقتلاع المستبدين والاستبداد الذي جمع في محتواه أسوأ ما ورد في العصر الحديث من مفاهيم ومبادئ وآليات، كما نقل من العصور القديمة أسوأ مفاهيم الاستبداد التي قامت عليها، وقد جاءت هزيمته من المسجد الذي احتوى القرآن الكريم، واحتوى العابدين الذين اقتدوا بموسى عليه السلام في مواجهة المستبدين.