في مثل هذه الأيام من هذا الشهر المبارك ولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين، فاستنار الكون بطلعته وأشرقت الأرض بنور ولادته، فكان الرحمة المهداة، والنعمة العظيمة، والأمل المنتظر الذي أرسله الله عزّ وجل للناس أجمعين >وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين< الأنبياء 17. قيل: لجميع الخلق، للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل، ورحمة للكافر بتأخير العذاب.
وببعثته ورسالته ودعوته انقشعت الظلمات وتبدّلت الأرض غير الأرض والناس كذلك، فساد العدل بعد طول سيطرة للظلم، وعمّ الإحسان بعد طول كراهية وجفاء، وانمحت ظلمات غشيت العقول وأعمت البصائر والأبصار.
كرّم الله محمداً صلى الله عليه وسلم فجعله سيّد ولد آدم ولا فخر، وجعل مولده نوراً وبركة اهتز عرش كسرى لها وانطفأت نار فارس بعد أن ظلت مشتعلة ألف عام، وربط بين محبته عز وجل واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم >قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يُحببكم الله ويغفر لكم< آل عمران 31 واشترط حصول الإيمان بمحبته صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» رواه البخاري ومسلم، وجعل الشهادة بنبوّته ركناً من أركان الإسلام، واختصه بالإسراء والمعراج، وجعل الملائكة دائمة الصلاة عليه >إن الله وملائكته يصلون على النبي< الأحزاب 56، وأيده بالمعجزات والبراهين وبعثه للناس أجمعين، عكس باقي الأنبياء والمرسلين، وختم به الرسالات وأرسله للناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وجعل سبحانه طاعة رسوله من طاعته >من يطِع الرسولَ فقد أطاعَ الله< سورة النساء 80، واختصه بما لا يعدّ ولا يحصى من المناقب والمفاخر عجز العلماء عن حصرها طيلة قرون، وعن عدّها رغم ما ألف في ذلك من الكتب.
ومن تمام الكرامات أن حظيت أمته صلى الله عليه وسلم بالتكريم، ورفع الله قدرها فوق باقي الأمم >كنتم خيرَ أمة أُخرجت للناس< آل عمران وما ارتفعت هذه الأمة وما شرفت إلا به |، قال الله تعالى >لقد منّ الله على المؤمنينَ إذ بعثَ فيهم رسولا<، لا نملّ من الصلاة عليه فبكل واحدة أجر.
كانت البشرية قبل بعثته تعيش كل صنوف الزيغ وتتخبط في كل أنواع الجاهلية، كانوا يتقاتلون لأتفه الأسباب، ويتخذون من الغارات مصدراً للارتزاق ويئدون البنات مخافة الإملاق ويعبدون الأصنام ويستضعفون الضعيف، فاستطاع | أن يؤلف القلوب وينير الأبصار وينقي العقول ويشحذ العزائم ويرفع الهمم، وصدق الله تعالى إذ قال: >واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا< آل عمران 103، وعبر عن ذلك الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال: «كنا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير».
لقد كان يوم ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم يوم سعادة دائمة للبشر والحجر والشجر وكل كائنات الوجود، وكان صلى الله عليه وسلم يحب هذا اليوم، فقد روى مسلم في صحيحه في كتاب الصيام عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين فقال هذا يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه»، وأخرج الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين وخرج مهاجراً يوم الاثنين وقدم المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين)، لاحظوا كيف كان يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالتواريخ والأيام والمناسبات، حيث كان يهتم بيوم الجمعة لأن فيه خلق الله عز وجل آدم عليه السلام، واهتم بعاشوراء لأن فيه كانت نجاة موسى عليه السلام، وأمره جبريل عليه السلام بصلاة ركعتين ببيت لحم، ثم قال له أتدري أين صليت؟ قال: لا، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام (رواه البزار وأبو يعلى والطبراني).
المولد النبوي فرصة للمؤمن ليتذكر اصطفاء الله عزّ وجل له من بين كثير من الخلق فنسبه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومناسبة له ليحقق هذا الانتساب بما يستحقه من محبة واتباع، وموعظة له يرى فيها حال المسلمين الذين تتداعى عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، لأنهم غثاء كغثاء السيل لا تغني عنهم كثرتهم العددية ولا ثرواتهم المادية، وذكرى له يتذكر فيها حاله مع الله عز وجل وموقعه مما أمره الله عز وجل به >يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين<.
لن تهتز مشاعر جافة بهذه المناسبة، ولن يخفق قلب قاس لهذه الذكرى، ولن يقف عقل لاه وفؤاد غافل على حقيقة هذه الأيام، وحينذاك ليس على هذا وذاك إلا أن يلوم ذاته ويبكي على نفسه، ويسارع ليعرف أنها ذكرى أعز من في الوجود، وسيّد ولد آدم، والرحمة المهداة، والشفيع لنا يوم القيامة.