صلاح الدين الجورشي

لا يزال انتصار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وحزبه «العدالة والتنمية»، في الانتخابات الرئاسية والتشريعية في بلاده أخيراً يثير جدلاً داخل أوروبا وفي العالم العربي، بما في ذلك تونس. لقد ذُهل كثيرون بهذا الانتصار الساحق بعد أن توقعوا هزيمة ماحقة لحزب العدالة والتنمية وقائده، بسبب ما اعتبروها «أخطاء قاتلة» ارتكبها الرجل القوي في تركيا خلال السنوات الأخيرة، في مقدمتها التوسع في المساس بالحريات، والدخول في عمليات عسكرية خارجية، زادت من حجم الخلافات مع أوروبا وأميركا. وكانت هذه الأطراف تعتقد بأن ذلك كافٍ لإخراج ما يسمّونه «الإسلام السياسي» من السلطة، ويفتح أمامهم الطريق إلى الظفر بالحكم في تركيا.
تهاوت هذه الحسابات أمام القاعدة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، وأمام الخطة السياسية التي وضعها أردوغان. إذ لم يتوقع أحدٌ أن نسبة المشاركة في الاقتراع ستصل إلى 90% في تعبئةٍ غير مسبوقةٍ تركياً وحتى عالمياً. ويعود سرّ ذلك إلى عوامل عديدة، حيث أعطى الأتراك الأولوية للاستقرار السياسي والأمني، وشعروا بالخوف من نقل السلطة إلى معارضةٍ ضعيفةٍ ومشّتتةٍ، ولا تملك برنامجاً موحداً.
صحيح أن تركيا لا تخلو من صعوبات اقتصادية، وهناك جدل بشأن ملف حقوق الإنسان والديمقراطية، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لإقناع الرأي العام بضرورة تغيير القيادة السياسية للبلاد. يريد الأتراك شيئاً آخر في هذه المرحلة بالذات، يعتقدون أن بلادهم تتقدّم اقتصادياً، وأصبحت لاعباً إقليمياً ودولياً لا يُستهان به، وتمكّنت من أن تتحرّر نسبياً من الوصايتين، الأميركية والأوروبية، دون أن تقطع مع حلفائها القدامى، على الرغم من نجاحها في بناء تعاون استراتيجي مع روسيا الصاعدة (...).
ما عجز عنه العرب يتحقق اليوم في تركيا، فالقوميون والإسلاميون في العالم العربي انغمسوا في خصومةٍ تاريخيةٍ تكاد تصبح أبدية، في حين نجحت البراغماتية في تركيا بأن تدفع حزب العدالة والتنمية إلى بناء تحالفٍ متين مع حزب الحركة القومية اليميني، حيث تمكّن الطرفان من حسم الانتخابات الرئاسية منذ الجولة الأولى، وأن يحصدا الأغلبية البرلمانية، وهو ما سيجعلهما يمسكان كلياً بآليات السلطة التنفيذية، ويحقّقان برنامجهما السياسي بعيدا عن ضغوط المعارضة. وبذلك تكون تركيا قد مالت أكثر نحو اليمين، وابتعدت أكثر عن أوروبا، وستصبح أكثر إصراراً على مواجهة الأكراد عسكرياً، وأشد تورّطاً في الصراعات الإقليمية، وأكثر اشتباكاً مع اللاعبين الرئيسيين في السياسات الدولية.
من هذه الزاوية، بدأت بعض الأحزاب الإسلامية العربية بالذات تشعر بالارتباك، فهي من جهة تسعى، مثلما هو الشأن في تونس والمغرب، نحو طمأنة شركائها في الوطن وفي الغرب بأنها حريصة على حماية الديمقراطية، واحترام قواعدها في الداخل. ومن جهةٍ أخرى، ترغب في المحافظة على علاقاتها المتينة بحزب العدالة والتنمية التركي الذي ترى فيه حليفاً استراتيجياً... المعادلة تبدو صعبة.
حذّر القيادي في حركة النهضة التونسية، الشيخ عبد الفتاح مورو، أردوغان من الوقوع في «مصيدة»، لأنّ «التحوّل إلى نظامٍ بصلاحياتٍ مطلقةٍ لرئيس الجمهوريّة يعني احتمال أن يأتي شخصٌ آخر يضعه أعداء تركيا والإسلام في الموقع الذي جهّزه أردوغان لنفسه»، مضيفاً: «ذلك اتّجاه يجب أن يحسب بدقّة وعناية». لم تعجب نصيحة مورو قيادة «النهضة» التي لا ترغب في إزعاج حليفها التركي، خصوصاً في هذه المرحلة الملغمة بالمخاطر. ويبقى الخيار الأفضل بيد أردوغان الذي لو تمسّك بالديمقراطية والتنمية معاً، لدخل التاريخ من بابه الكبير.}