الدكتور وائل نجم

يوم الأحد الماضي شهد وسط بيروت حشداً غير بسيط لعدد من المواطنين والمواطنات الذين أرادوا أن يحتجّوا على الفساد والفلتان والوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي يمرّ به لبنان. كما شهدت بعض المناطق اللبنانية الأخرى حراكاً مماثلاً ومشابهاً لما جرى في بيروت وإن كان بوتيرة وعدد أقل، ولكنه حراك يحمل مؤشراً يدلّ على أن الوضع في البلد، وعند قطاعات كثيرة من اللبنانيين لم يعد يطاق أو يُحتمل، وللمفارقة فإن تلك التحركات التي جرت لم تكن باسم أي جهة سياسية، وإن كان البعض اتهم بعض الجهات السياسية بالوقوف خلفها. كما لم تكن باسم أيّ من الهيئات والمنظمات والجمعيات التي اعتادت خلال السنوات الماضية على تنظيم مثل هذه التحركات ، تارة تحت عنوان الملف البيئي وتارة أخرى تحت عنوان مكافحة الفساد، أو النفايات أو غيرها من العناوين. هذه المرة جرت الدعوة عبر مواقع التواصل الإجتماعي دون أن تكون أي جهة واضحة خلفها، وهذا ما يلقي على تلك التحركات ظلالاً من الشك بقدر ما يظهرها بريئة من أي شبهات أو نوايا سياسية. فهل تأتي هذه التحركات بمثابة جرس الإنذار لكل الطبقة السياسية التي لم تعد تأبه لكل ما يصيب الناس؟ أم أنها مجرد صرخة في واد عميق ما تلبث أن تنتهي بعد أن يتردد صداها لعدة مرات دون جدوى أو فائدة؟

لا شك أن المستوى الذي بلغه الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان مخيف ومرعب لمن يعرف الأسرار الاقتصادية والمالية ، كما لا شكّ أن المواطنين باتوا يخشون من انهيار اقتصادي يجهز على ما تبقّى لديهم من قدرة على الاستمرار والصمود، فالفجوة تزداد بشكل كبير يوماً بعد يوم بين الطبقة المتحكمة بقرار البلد من السياسيين والاقتصاديين وبين الطبقات الشعبية المسحوقة التي تنتمي إلى كل المكوّنات اللبنانية، وهو ما يهدد ، فيما لو استمر الوضع على حاله، بانهيار كامل وفوضى عارمة، وبالتالي فإن التحركات التي جرت في أغلب المناطق، وبغض النظر إذا ما كانت مسيّسة أم لا، فإنها تشكل فعلاً جرس إنذار مبكر لتلك الطبقة التي ما زالت إلى الآن مختلفة على توزيع المقاعد الحكومية وعلى المحاصصة، وكأن تلك الوزارات التي سيشغلها ممثلوها آبار نفط ستغني تلك الأحزاب والقوى السياسية، بل تلك الطبقة، في حين أن البلد يئن ويرزح تحت الضغط الهائل الذي يهدد بالانفجار الاجتماعي الاقتصادي في أي لحظة.

لكن في مقابل هذه التحركات التي تشكل في مكان ما جرس إنذار، هناك نوع من الشك الكثيف يظلل تلك التحركات، خاصة أننا تعوّدنا في لبنان أن ننظر إلى الأمور مستشعرين أو متوهمين وجود خلفية سياسية لها، حتى لو كانت بريئة من أية خلفيات وطاهرة من أية أهداف سياسية. وقديماً قيل لأحدهم : "لما تنفخ على اللبن، فأجاب : الحليب كاويني" ، فاللبنانيون اكتووا من التحركات السابقة والماضية التي رفعت شعارات مطلبية ومحقّة ، لكنه سرعان ما اكتشف الناس أن وراءها أهدافاً سياسية تخدم جهات معيّنة، وبالتالي فقدوا الثقة بكل تكل التحركات حتى تثبت "براءتها" و"طهرها"، ولذلك فإن التفاعل مع التحركات التي حصلت لم يكن بحجم المعاناة التي يعانيها كل اللبنانيين، بانتظار أن يتبيّن لهم أنها فعلاً مجرّدة عن أية حسابات سياسية.

ولكن المشكلة المقابلة هي أن هذا النظام السياسي الطوائفي الذي حوّل الناس من مواطنين يدينون بالولاء للوطن ومصالحه العليا، إلى رعايا طوائف يدين كل طرف منهم الطرف الآخر ويستشعر الخطر بوجوده، لذا فقد ناصبه العداء، ورأى فيه خطراً وجودياً فوجّه كل طاقته وتفكيره لمواجهته ظناً منه أنه بذلك ينجو من الخطر الحقيقي الذي يحدق بالبلد، ومن تحكّم تلك الطبقة التي تنتمي إلى كل المكوّنات، وتستخدم هذه المكوّنات في الوقت ذاته لإسكاتها واستغلال طاقاتها وحضورها تحت عنوان الدفاع المقدس عن الوجود الطوائفي، وبذلك بتنا نشعر أن التغيير والقضاء على الفساد في مثل هذا النظام من الأمور الصعبة إن لم نقل المتسحيلة ، في ظل التخندق خلف تلك الطبقة والقيادات التي أوهمتنا أنها تحمي وجودنا، ولكنها في حقيقتها تستغل هذا الوجود لمصلحتها ومصلحة بقائها متحكمة برقابنا ومستقبل أبنائها.

خلاصة القول ، في ظل هذا النظام الهجين الذي تضيع فيه المسؤولية والمحاسبة ، نرى أن كل التحركات المطلبية الشريفة والبريئة تتحوّل إلى صرخة في واد، وإن كانت تشكل في حقيقتها جرس إنذار لكل الوضع القائم والمهدد بالانهيار.

للدكتور وائل نجم