الشيخ نزيه مطرجي

قد يطلبُ المرءُ من مُغْريات الدنيا ما فيه عَطَبُه، ويتمنّى من شهواتها ما يتهدَّدُه خَطرُه، ويشتَهي مِن لذّاتها ما يصيبه عذابُه، وإن من أشدِّ المَلذّات إيقاعاً في البلِيّات وإركاساً في الخطيئات طلبُ الولايات والتطلُّع إلى الإمارات.
إن كلَّ مؤمنٍ مُهيَّأٌ لحَمْلِ الشَّهادة، واعْتِناق العَقيدة، ومُؤهلٌ لتحمُّل العبادة وإقامة الشـريعة، ولكن قلَّما تَلقى مؤمناً حقيقاً بأمانة البلاد وشؤون العباد؛ ولو يُعطى الناس بدَعواهم وأمانِيهم لصار الناس وُلاةً بلا ولاية، ورُعاةً بلا رعيَّة!
قد تكون الولاية في مُبتدئها رَغداً وسعادة، لكنها تنقلب في مُنتَهاها نَكداً ونَدامة، وفي ذلك يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستَحْرصونَ على الإمارة، وستكون نَدامة يوم القيامة، فنِعمَ المُرضِعة وبِئسَت الفاطِمة» أخرجه البخاري؛ فهي آسِرةٌ مَحبوبةٌ شَأْنُها كشأنِ الُمرضِعة للرَّضيع، ولكنَّ عاقِبَتها بعد الفِطام والانفصال عاقبةٌ وخيمة ما لم يكن الذي تولّاها أميناً ومُؤدِّياً حقوقَها. وقد نبَّهَنا سيِّدُ الخَلْق إلى ثِقَلِ أمانة المتولّي في قوله: «ما من رجلٍ يَلِيَ أمرَ عَشـرة فما فوق إلّا أتى الله يومَ القيامة، يدُه مَغلولةٌ إلى عُنُقه، فَكَّه بِرُّه أَو أوْثَقَه إثمه، أوَّلُها ملامَة، وأوْسَطُها نَدامة، وآخرها خِزيٌ يوم القيامة» أخرجه أحمد.
إن الذين ليسوا أهلاً للوِلاية والرِّئاسة، لا يُحقِّقون شُروطَها ولا يَملِكون أركانها، يتهافَتون عليها تهافُتَ الفَراش على النار، ويَتَدافَعون إليها تدافُعَ الجِياع إلى القِصاع، وإن فاتَتْهم خَفَقتِ الغَيْرةُ في قُلوبهم، واحتدَم الحَسدُ في نفوسهم، وسَلَقوا الخُصوم بألسِنةٍ حِدادٍ وتُهَمٍ شِداد.
أما الأُمناء الأَتْقِياء فإنهم يَزْهَدُون في جاهِها، ويُعرِضون عن حَلَباتها، وقد تأتيهم مُنقادةٌ إليهم تُجَرِّر أذْيالها، فلا يَبعثُ ذلك في نُفوسِهم إلا خوفاً من ثِقلِ الأمانة وإشفاقاً من التَّفريط في تكاليفها.
إنَّ مَن يجري وراء الزَّعامة، ويسعى لها سَعْيَها، وهو ضعيف وهي أمانة، ثم يَبْلُغُها ويَعْتَلي صَهْوَتها، فقد ركِب مَركَباً خَشِناً، وارْتَقى مُرتَقىً صعْباً، وأَلْقى بنفسِه في أَتون الفِتنة، وطَمَسها في حميم نارِها. وقد قالوا: مَن افتَخَر بالزَّعامة هو أحمقُ من النَّعامة، لأن النَّعامة تَترُكُ بيضَها، وتحضُنُ بيضَ غيرها!
إن الزَّعيم مِن أشقى الوَرى ومِن أبْعَدِهم عن النَّجاةِ في الآخرة، لأنه لا يُسألُ عن ذات نفسِه وَحدَها، ولا عَن أهله وعِياله، ولكن يُسألُ عن جميع أفراد رَعِيَّته، ويُناقَشُ الحسابَ على النَّقير والقِطمير. وقد تكون تُهمَتُه الانْغِماس في شهَوات الحياة، وجَلْبِ النَّعيم، فيُساق في الآخرة إلى العذاب الأليم، ويصيرُ في النار بين أطباق الجحيم.
أيها السَّاعي إلى عُلُوِّ المَقام، الطامِع في قِياد الأنام، ذو النَّفْس الأمّارة بطلبِ الإمارة، اِعرِض نفسَكَ على آياتِ اللهِ البيِّناتِ في الأمانة التي أبَتِ السّمواتُ والأرضُ والجبالُ وعظائمُ المَخلوقات أن يحمِلْنَها وأَشْفَقْنَ منها، وعلى الآياتِ المُحْكَمات في إقامة العدل في الناس، ثم اْعرِض نَفْسك على هَدْيِ المُصطفى صلى الله عليه وسلم في شُروط الولاية وصِفات الوُلاة، فإن وجدتَ نفسَك حقيقاً بها فحَيْهَلا وإلّا فلا...
لا تطلب الولاية إن كنتَ ضعيفاً لا تستطيعُ أنْ تَنطِقَ بصوتِ حرٍّ طَليق، لا تَثبُتُ قدَماكَ على الصِّراط من غير تَضْيِيقٍ ولا تَطْويق!