الشيخ نزيه مطرجي

الناسُ للناس في كلِّ عَصْر وزَمَن بعضٌ لِبَعْضٍ وإن لم يَشْعُروا خّدَمُ.. فالله تعالى قَسَم بين العباد أَرْزاقَهم ومعايشَهم، ورَفع بعضَهم فوق بعضٍ دَرَجاتٍ {ليَتَّخِذَ بعضهُم بَعْضاً سِخْريّاً} الزخرف 32
إن البشر لا يَصْلُح حالهم ولا يستقيمُ أمْرُهم إلا بتحقيق التعاون بينّهم، وتبادُلِ المصالح والمنافِع، وأن يَسْعى لدفع كُلِّ غَمّ كاشِف وكُلّ هَمّ فارج.
لقد رأىَ أهْلُ السّلف قضاء الحوائج من جلائل الأعمال وكرائِم الخصال. فكانوا يُقَدّمونها على أَداء النّوافل والاعتكاف في الجوامع، ويسْهرون ليلهم، ويظمأون نهارَهم في عُكفِهم على السَّير في الحاجات وتلبية الشَّفاعات.
لقد تَرَبَّتْ نفوسُهم الظاهرة على حُبِّ الشّفاعة حتى غَدت عندهم من الأعمال السائرة، والفضائل الزّاهرة، والشائعُ عندهم أن لِكُلِّ شيء زكاة، فَلِلْعِلم زكاة، وللجاه زكاة، وللعافية زكاة، وأداء الشَفاعة زكاةُ المُروءات. كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه السّائلُ أو صاحِبُ الحاجة قال لجلسائه: «اشْفَعوا تُؤْجروا ويَقضي الله على نَبيّه ما شاء» متفق عليه. ووِرِد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «إن الرجل لَيَسْألُني عن الشيء، فأمْنَعُه حتى تَشْفَعوا فَتُؤْجَروا» رواه النسائي.
ونَدَب كتابُ ربِّنا إلى الشَّفاعة فقال الله تعالى: {من يَشْفَع شفاعةَ حَسَنةً يَكُنْ له نَصيّب منها، ومن يَشْفَع شَفاعةَ سَيّئةً يكن له كِفْلٌ منها، وكان الله على كُلِّ شيءٍ مُقيتاً} النساء- 85.
فمن يَشْفَع شفاعة حَسَنة يكُن له نصيبٌ من الأجر، ومن يَشْفع شفاعةً سَيِّئة يكُن عليه كفْلٌ من الوِزر، لأنه يُعينُ على الإِثم والعُدوان وَمَعْصِيَةِ الله والرَّسول.
وإذا جاء إلى السّلف مَن يَطْلُب شَفاعةً يسيرةً لا تَشْفي علة ولا تنفع غُلة فماذا يكونُ موقفهم؟ قال رجلٌ لابن عباس: أتيتك في حاجة صَغيرة، قال له: فاطْلُب لها رَجلاً صغيراً!
كان المؤمنُ يُقْدِم على الشَّفاعة حُبّاً وكرامةً، وَيْندفعُ في هذا السبيل وهو غيرُ آمِلٍ منه لنفسه فائدة ولا راج منه عائدة (منفعة)، ولكن لكونه فضيلةً تُسرّ بها نفسه وعبادةً تقرُّ بها عَينه. رُوي عن عبد الله بن عثمان شيخ البخاري انه قال: «ما سألني أحدٌ حاجةً إلا قمْتُ له بنفسي، فإنْ تمّ وإلا قمتُ له بمالي، فإن تم وإلا استعنّا له بالإخوان، فإن تمّ وإلا استعنتُ لهُ بِالسلطان». وإذا رُدَّت شفاعَةً الشّافع فينبغي أن لا يحزنَ ولا يَنْدَم على ما قدّم، فإنه يؤجر على ما قدمه، إن صبر ويثاب ولو كان غير مجاب!
وينبغي أن لا يَرْبِط شفاعتهُ بضمان تحقق الإجابة، فإنّ الأمور مرهونةٌ بالقضاء الرَّبَّاني.
ومن سِمات المؤمن انه يصبُر في البلاء ويَرضى بالقضاء فالله تعالى هو الذي يقضي ويحكُم، ولا مُعقّب لحكمه وقضائه. 
وقد جاءت هذه اللّفتة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويقضي الله على  نَبيّه ما يشاء». ومِمّا يشْهَدُ لذلك ما جاء في السّنَة الصحيحة إن النبي صلى الله عليه وسلم وهوسَيّد الخَلْق وأولى بكل مؤمنٍ من نفسه قد رُدَّت شفاعتُه عند «بَريرة» مولاة عائشة، وذلك أن النبي طلب من عائشة إعتاقها ففعلت، وكان زوجُها عبداً، فخيّرها الرسولُ صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها وفسخ الزواج، فكان زوجها «مُغيث» يطوف خلفها في سِككِ المدينة ويبكي ودمعتُه تَسيلُ على لِحْيَتهِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: ألا تعجب من حُبِّ مُغيثٍ بَريرة، ومن بُغْضِ بريرة مُغيثاً؟ « قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لبريرة لو راجعته، فقالت: أتأمُرُني يا رسول الله؟ فقال إنما أَشْفع» قالت: لا حاجة لي فيه! من حديث رواه البخاري. غير أن الغالب في الحياة الدنيا أن شفاعة أَهْلِ التّقوى إلى المُشَفَّع تجابُ وتُرتَجى. 
ما أعظم مقَامَ الشّفاعة يوم القيامة! حينما يَخطرون سعداء، وَيَحظَون بشفاعة سيَد الأَنبياء. أوّلُ شافع وأَول مُشَفّع يوم القيامة.
ذو الشفاعة الحسَنة أَصْلَحُ للناس من الترياق النافع، وذُو الشفاعة السَّيّئة أضَرُّ بهم من السُّم النّاقع!