الشيخ نزيه مطرجي

إنّ أَشَدَّ الأَخْطار على الإنسان آفاتِ الّلسان، وما أَكْثَر هذه الأَخطاء، وما أشَرّس عَسْكرها الذي ينقضُّ على المَرْء من داخل حِصْنه، فيُحدثُ فيه إيلاماً وتَعْذيباً، وهَدْماً وتَخْريباً! وإِنّما يُكَبُّ النّاسَ في النار على مَناخِرهم حصائدُ أَلْسِنَتِهم.
ما مِن سبيلٍ من ذلك الخَطَر الداهم إلا طولُ الصَّمْت، وتَرْكُ الهَزَر، لذا مَدَح الإسلامُ الصّمْتَ، وعَدَّهُ من أَحْسَن الفَضائل، ودعا إليه وقال في ذلك نَبِيُّنا الأَكْرَم صلى الله عليه وسم الذي أُوتِيَ جواهِرَ الحكم وجوامِعَ الكَلِم: «مَن صَمَت نَجَا» رواه الترمذي، وإن أيسَرَ العِبادةِ وأهونَها على البَدَن الصَّمتُ وحُسْنُ الخُلُق.
ورد في الكُتب القديمة (كما ذكر صاحِبُ كَليلة ودِمْنة) أنّ أربعةَ ملوك اجتمعوا، وهم ملك الهند والصين وفارس والروم، وقالوا: ينبغي أن يَتكَلَّمَ كلُّ واحدٍ منّا بكلمة تدوَّن عنه على غابِر ِالدَّهْر، فقال مَلِك الصين: «أنا على رَدِّ ما لم أَقُلْ أَقْدَرُ منّي على رَدِّ ما قلت»، وقال ملِكُ الهند: «عَجِبتُ ممَّن يتكلّم بالكلمة إن كانت له لم تَنْفَعْهُ، وإن كانت عليه أَوْهَنَتْهُ»، وقال مَلك فارس: «إذا تكلّمْتُ بالكلمة مَلَكَتْني، وإذا لم أَتَكلَّمْ بها مَلَكْتُها»، وقال ملك الروم: «لم أَنْدَمْ قَطّ على ما لم أَقُلْ، وقد نَدِمْتُ على ما قُلْتُ كثيراً»!. وهذا يدلُّ على فَضيلة الصَمْت عند الملوك، وأن أفْضلَ ما استظلَّ بِهِ الإنسانُ لسانُه.
ومن آفاتِ اللِّسان المَذْمومة والمحرَّمة استباحَةُ اللَّعْن، وإخراجُ الإنسان من رَحمة الله وغُفْرانِه.
لقد شَدَّد الإسلامُ النَّكير على الذين يُطْلِقونَ الأَلْسِنَةَ بالطَّعْن والَّلعن، جاء في الحديث الصحيح: «ليس المؤمنُ بِالطعّان ولا الّلعان ولا الفاحِش ولا البَذيء» رواه الترمذي. والّلعْانّون يسقطون في نَقيضِه بغيضةٍ تجعلُهم يُحْشَرون يومَ القيامة على وصيلة عُظْمى، ونِعمةٍ فُضْلى، يودّ كلَّ مؤمن لو يُكْرِمُهُ الله تعالى بأن يكون مَحظيّاً بها، وذلك ما يُعْرَفُ في حديت النبيّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ أبا بكرٍ وهو يَلْعَنُ بَعْضَ فِتْيانِه،ِ فَالْتَفَت إليه وقال: يا أبا بكر أصِدّيقين ولَعَّانّين.. كَلّا وَرَبِّ الكَعبة! فأعتقَ أبو بكر يومئذ رقيقَه، وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقال: لا أَعود! رواه ابن أبي الدنيا.
إنّ اللَّعْنَ في حقيقتهِ هو حُكْمٌ على الله عزّ وجل بإِبْعادِ المَلْعون وطردِه من رَحْمَةِ الله وعَفْوِه، وهذا تأَلٍّ على الله لا ينبغي أن يكونَ لأحد، كما أن هذا إدِّعاءٌ بمعرفةِ الغْيب الذي أَخْفاهُ اللهُ على العِباد، واللهُ تعالى لا يُطْلِعُ على غيبه أحداً إلا من ارْتَضى من رَسول.... وقد جاء في الحديث الصحيح: «مَن الذي يَتألَى علي أَنْ لا أغفرَ لِفُلان، فإني قد غفرتُ لِفُلان وأَحْبَطتُّ عَمَلَك»! رواه مسلم. ولا يَصِحّ أن يكونَ اللَّعْنَ إلا لمن تأَكَّد مَوْتُه على الكُفْر، أو من ثَبَتَتْ لَعْنَتُه شَرْعاً كقوله: فِرعون وهامان لَعَنَهُما الله. ولا يَصِحْ أن يُلْعَن أَحَدٌ بِذاته ولو كان على الكفر، أو كان فاسِقاً مُبْتدِعاً، لأنه ربما تاب وصَلح دينُه، ولَقِيَ رَبَه راضياً مَرْضياً، وكان عند الله تعالى في مَقامٍ أَعلى من لاعِنِهِ، وقد ورد في السُّنّة أن الصحابِيّ «نُعَيْمان» شرِبَ الخمر، فَحَدَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عدة مرات، فقال بعض الصحابة: لَعَنَهُ الله، أما أَكْثَر ما يَؤْتَى به، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تَقُلْ هذا فإنه يُحِبُّ الله ورسولَه،! رواه ابن حبان، وفي رواية: لا تَكُن عَوْناً للشَّيطان على أخيك!» رواه ابن عبد البر.
والذي يُرَخِّصُ به الشَّرعُ أن يكون إطلاقُ اللّعْنِ على الأَوصاف أو على الأَجْناس المعروفة كقولك: لَعْنَةُ اللهِ على الظالمين، أو على الفاسِقين، أو على مُسْتَحِلي الحرَام، أو على أهل الفُجور وأَكَلةِ الرِّبا...
إن المجرم القاتل في الإسلام الذي قَتَلَ نفساً زكيَّةَ بغير نَفْس لا يُسْتَباحُ لَعْنُه، فلعله يتوب قبل أن يموت فيَعْصِم نَفْسَهُ، و يُحَصّن عِرْضَه، فهذا وَحْشِيّ قاتل أَسَدِ الله حَمْزة رضي الله عنه، الذي فُجِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بموته أيَّما فَجيعة، هذا العَبْدُ القاتَل قد تاب وحَسُنَت توبتُه، ودخل مجاهداً في جيش أُسامة.