العدد 1348 / 9-2-2019
الدكتور وائل نجم

لا نعلم على وجه الدقة العبارة التي سترد في البيان الوزاري حول مكافحة الفساد، لأن المقال كُتب قبل الإقرار النهائي لهذا البيان، إلا أن الشيء المعروف والمعلوم والمؤكد هو أن هذا البيان سيتضمن ما يتصل بالحديث عن مكافحة الفساد ووضع حد له.

الملفت في هذا السياق أن كل القوى السياسية التي ألّفت الحكومة وتشارك فيها، وبعضها أو أكثرها شارك عبر السنوات الماضية في كل الحكومات التي تعاقبت على حكم البلد، تحدث ويتحدث عن أولوية مكافحة الفساد في المؤسسات والإدارات، وهذا في الحقيقة شيء مهم، أن تعترف هذه القوى بالفساد المستشري في الإدارات والمؤسسات كافة دون استثناء، وباعتراف واتهام القوى السياسية لبعضها البعض من على منابر الإعلام تارة، ومن على منبر المجلس النيابي في كثير من الأحيان.

وإذا كانت هذه القوى المشاركة في الحكومة والسلطة تريد مكافحة الفساد، وإذا كانت هي التي تتهم بعضها به، وإذا كانت هي التي ألّفت وشكّلت الحكومات السابقة، فيا ترى من يكون المسؤول الحقيقي عن الفساد المستشري في البلد؟! من الذي يغطي المفسدين ويؤمّن لهم الغطاء اللازم لنشر فسادهم في الدولة والإدارة وحتى المجتمع؟!

بعض القوى السياسية تريد وضع حدّ للفساد في الدولة والإدارة وهي التي رفضت وترفض تعيين موظفين في بعض الإدارات نجحوا في امتحانات المجلس المنوط به تعيين الموظفين، وأقصد بذلك مجلس الخدمة المدنية، تحت ذريعة وحجة عدم وجود توازن طائفي ومذهبي في الناجحين، مع أن الدستور اللبناني لم ينصّ على ذلك، بمعنى آخر فإن رفض هذا التعيين بموجب هذا النجاح فيه مخالفة دستورية صريحة، ومع ذلك يحدثنا هؤلاء بمكافحة الفساد، ويريدون أن يكرّسوا قاعدة التوازن الطائفي في الوظائف والإدارات مع أن اتفاق الطائف ألغاها إلا في وظائف الفئة الأولى. فأي حديث جدّي عند هؤلاء عن مكافحة الفساد؟! هذا إذا ما تحدثنا عند هؤلاء عن حشو وزاراتهم بعدد كبير من الموظفين المتعاقدين من دون أية مباراة شفافة أو نزيهة عبر المجلس المنوط به التوظيف!

هذه القوى السياسية ذاتها وفي مؤسسات وطنية كبيرة عمدت إلى "دحش" عدد من الموظفين في مؤسسة مهمة ومن دون الإعلان عن حاجة إلى التوظيف، و دون المرور عبر المؤسسات المعنية بالتوظيف، بل بطريقة جرت على شكل "تهريبة"، وتأتي بعد ذلك وتحدث عن مكافحة الفساد والمفسدين!

بعض الوزراء المنتمين لهذه القوى السياسية باتوا من أصحاب الرساميل المهمة والكبيرة في البلد، والجميع يدرك ويعرف حجمهم المالي السابق، فمن أين لهم كل هذا المال والنفوذ؟ وهؤلاء هم الذين يحدثونك عن مكافحة الفساد!

قوى سياسية أخرى ترفع اليوم شعار مكافحة الفساد وهي التي "حشدت" في الوزارات والإدارات والمؤسسات التابعة للدولة أعداد كبيرة من الموظفين الذين ليس لهم أي عمل سوى أن يقبضوا رواتبهم عند آخر كل شهر. وأذكر في هذا المقام شخصين أعرفهما معرفة شخصية. الأول يقبض راتبه من مؤسسة عامة دون أن يقوم بأي عمل فيها، وذلك منذ أكثر من عقدين من الزمن. والآخر يقبض راتبه من وزارة وهو منصرف بشكل كامل إلى عمل خاص. وكل واحد من هذين الشخصين محميّ من جهات سياسية نافذة في البلد. وأشكال وأمثال هؤلاء من المحمين أعداد لا تعدّ ولا تحصى. فكيف لهذه القوى السياسية التي أدخلت هذه الأعداد إلى الوزارات والمؤسسات والإدارات أن تكافح الفساد وهي التي صنعته؟!

قوى سياسية آخرى تعدنا بمكافحة الفساد وهي التي تشرّع للتجار المحسوبين عليها تهريب ما غلا ثمنه وخف ّحمله من البضائع دون أن يكون للدولة أية ضريبة على تلك البضائع بفعل الأمر الواقع. هذه القوى تتحكّم وكما هو معروف بمداخل البلد في المرفأ والمطار وحتى بعض الحدود، وتشترك بقصد أو بغير قصد، بمعرفة من قياداتها الكبرى أو بغير معرفة في تغطية الفاسدين بل ومشاركتهم في تجاراتهم وفسادهم. وبعد كل ذلك تعدنا هذه القوى بمكافحة الفساد! لقد أخبرني أحد الأصدقاء قبل أيام أن نائباً نافذاً، بل ربما هو مكلّف بوضع تصوّر لمكافحة الفساد داخل القوة السياسية التي ينتمي إليها، أدخل إلى إحدى المؤسسات أكثر من ثلاثين موظفاً خلال الفترة الأخيرة كلهم من املحسوبين عليه في منطقته. أليس هذا من الفساد العلني الذي يحتاج إلى مكافحة؟! وأين فرص بقية الناس في التوظيف والمنافسة؟!

قوى سياسية أخرى تحاول أن تظهر نفسها بالعفة والمصداقية والعمل لصالح البلد، وهي التي بات الجميع يدرك أنها تحاول أن تعوّض بعض خسائرها من خلال مؤسسات الدولة، وقدظهرت أكثر من فضيحة في هذا السياق. فهل هذه فعلاً ستقوم بمكافحة الفساد؟!

منطق المحاصصة الذي خضع له تشكيل الحكومة أليس أكبر مظهر من مظاهر الفساد؟! أليس من الفساد العلني أن يقول أحد الوزراء أن قد أتى إلى إحدى الوزارات الخدمية ليخدم مناصريه ومحازبيه وبيئته؟! وقد استدعى ذلك لاحقاً توضيحاً منه واستدراكاً من مرجعيته السياسية.

أسأل كم من النواب حتى الوزراء قدّم وعوداً لناخبيه بتوظيفهم وخدمتهم مقابل أن يشغل المقعد النيابي أو الوزاري، أليس في تلك الوعود والمحاولات بعض مظاهر الفساد؟

الحقيقة المُرّة أن أغلب تلك القوى التي تتحدث عن مكافحة الفساد تتعامل وتتعاطى مع الدولة والبلد على أنه شركة يريد كل منهم أن يأخذ منها ما يستطيع دون نظر إلى أنها في لحظة من اللحظات قد تعلن الإفلاس. هؤلاء يبيعون الناس الوهم والخداع، فمن شبّ على رعاية الفساد لا يمكن أن يشيخ على مكافحته.

د. وائل نجم