العدد 1343 / 2-1-2019

بقلم : المهدي مبروك

ترتفع حرارة الشتاء التونسي بشكل استثنائي، وهو ارتفاع ناجم عن شيء من تغيرات المناخ، وشيء من ذاكرة الاحتجاج التي اختزنت جبالا من التبرّم والسخط التي عبّرت عن نفسها خلال هذه الأشهر، حتى غدت رأسمالا تحاول أطياف متنوعة، لا يربط بينها رابط موضوعي، استثماره لإسقاط الحكومة. حدثت في تونس منذ ثماني سنوات تقريبا ثورةٌ، ما زالت بعض أحداثها غامضة، خصوصا التي تعلقت بالأيام الأخيرة للنظام وسرعة تفكّكه. ربما كانت أجنحة النظام المتصارعة قد ساهمت في تسريع انهياره. وربما تكون مصالح خارجية تقاطعت تطلعاتها مع تلك الهبّة الشعبية، ولكن رأس النظام سقط في كل الأحوال، وانتقلت البلاد إلى طور آخر، انتظمت فيه انتخابات، وترسخت تدريجيا أركان الانتقال الديموقراطي. وفي ذلك كله، لم يتسلط على الشعب أحد، ولو باسم الثورة ذاتها، فقد فشلت كل التنظيمات التي حاولت أن تحتكر الثورة: مجلس حماية الثورة، لجان حماية الثورة. واختار المواطنون الاحتكام إلى ما اخترعته البشرية من آليات النظم الديموقراطية: الانتخابات و صناديق الاقتراع تحديدا لاختيار من يحكمهم. مارس الشعب حقه في اختيار حاكميه، وعاقبهم أحيانا حين استدعى خصومهم في الانتخابات التي تلي، وكان ذلك دوما من خلال صندوق الاقتراع.

لم يكن الانتقال الديموقراطي يسيرا، وعرفت البلاد انزياحاتٍ، وحتى تراجعات خطيرة، تتحمل مسؤوليتها القوى الثورية التي هادنت النظام القديم أحيانا، وتنازلت له، سواء كان ذلك عن تقدير واجتهاد، أو تحت إكراهات إقليمية، خصوصا بعد صعود القوى الإسلامية، والانكسار الذي حدث في الحالة المصرية، فعادت الدولة العميقة أكثر شراسة أحيانا، وتعملقت النقابات الأمنية، ورجع رجال النظام السابق وزراء ومسؤولين في حكومات ما بعد انتخابات 2014.

يُعاد في مثل هذا الموسم الشتوي إحياء مشاعر الإحباط، كلما مررنا بهذا الشتاء، غير أن الأمر أخذ منحىً مخالفا لما عهدناه هذه المرة. لم يعد الهدف منها إسقاط الحكومة، بل إسقاط المسار برمته من خلال إعادة شعارات ثورة 2010، والانقلاب على المنجز الانتقالي برمته.

كثير مما يجري حاليا تحت قيادة وتشجيع مسميات عديدة، منها "السترات الحمراء" و"باسطا"(عنوان حملة أفقية)، لا نعرف وجوه قادتها، بل هي أشباح ونكرات، تعلن عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن حرصها على إسقاط النظام، وليس الحكومة، تحت مسوّغات فشلها في تلبية حاجات الفئات والجهات المحرومة: الشغل والتنمية.

المقبلون على هذه الحملات، والمتشيعون لها ومناصروها، كثر: طيف واسع من المحبطين الذين لم يروا خيرا في الثورة، وهي التي استفاد منها، حسب اعتقادهم، نخب محصورة، مولعة بمطالب الحقوق و الحريات، وهي التي لا تغني ولا تسمن من جوع، حسب اعتقادهم، أنصار النظام السابق، وتحديدا في تعبيراته الحزبية الأكثر تطرّفا و معداة لحركة النهضة، ومسار العدالة الانتقالية، اما حزب نداء تونس الذين اعتبروا أن رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وهو ابنهم الذي عينوه في رئاسة الحكومة، فانقلب عليهم هؤلاء الخليط، المستعدون للقيام بثورة ثانية، تأديبا لمن حكم ومن ساند ومن ثار سنة 2010.

لا يقدم هؤلاء بديلا عن إسقاط النظام أو الحكومة، ما يجعل البلاد مفتوحةً على كل الاحتمالات، بما فيها خطر الفراغ. لقد تدرب الناس على إدارة المرحلة الانتقالية وصعوباتها، وتحديدا الصعوبات الاقتصادية والسياسية، فكيف يمكن أن نطمئن إلى هذه الدعوات والبدائل العبثية، وقد عجزت النخب عن حل معضلات البلاد المتراكمة، وهي التي تحظى بشرعية ومشروعية لا طعن فيهما.

انطلقت الاحتجاجات الاجتماعية مند أسبوعين تقريبا، ثم احترق مصور تلفزيوني، وسجل احتراقه، ولم يتحرك الشارع إلا جزئيا، وتعود الأسباب إلى جملة من المسائل:

أزمة الثقة التي حفرت هوة عميقة بين النخب، أيا كان توجهاتها، ودليل ذلك النسب التي حازتها، مثل الجبهة الشعبية، في الانتخابات البلدية أخيرا، علاوة على مؤشراتٍ أخرى، منها العزوف الانتخابي الكبير، وانجراف القاعدة الانتخابية لجل الأحزاب. حالة الإنهاك التي أصابت قطاعاتٍ واسعة من الرأي العام التي لم تعد مؤمنة بالتحشيد والتعبئة، فضلا عن عدم إيمانها بأن شيئا ما سيتغير جذريا. اختلاط الحابل بالنابل بين أعداء الثورة والثائرين الجدد، إذ طورا يتزعم أنصار حزب نداء تونس، وبقايا النظام القديم، هذه الحملات، وطورا آخر تتسلم المشعل عنهم تعبيرات ، موغلة أحيانا في الفوضى.

يكفل الدستور حق الاحتجاج السلمي، وحرية التعبير، فضلا عن التجمهر والإضراب، وكلها من شأنها أن تصوب ما يبدو انحرافا، خصوصا أنه لم يبق على الانتخابات التشريعية سوى بعض الأشهر. لذلك يعجّل بعضهم بإسقاط النظام والانقلاب على الشرعية، تحت لافتة ثورة ثانية، وهي لن تقع، على الرغم من كل الثغرات والأخطاء. الشعوب لا تنجز ثورتين في أقل من عقد، وإذا حدثت هذه المعجزة، فان إحدى الثورتين زائفة.