العدد 1344 / 9-1-2019

بقلم : سمير حمدي

منذ فشل التوافق على مخرجات وثيقة قرطاج الثانية التي اقترحها الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، خصوصا في نقطتها المتعلقة بإقالة رئيس الحكومة ، يوسف الشاهد، عرفت الساحة السياسية التونسية حالة من التجاذب بين القوى الحزبية والاجتماعية المختلفة أثّرت على طريقة التعاطي الرسمي مع الملفات الاجتماعية الساخنة مع بداية العام الإداري الجديد. ذلك أن الخلاف بين الرئاستين (رئاستي الجمهورية والحكومة) أفضى إلى نوعٍ من القطيعة السياسية بين الطرفين، على الأقل في المرحلة الحالية. وتعود جذور الخلاف إلى حالة الانشقاق التي قادها الشاهد في حزبه السابق، نداء تونس. وعلى الرغم من أن هذا الانشقاق لم يكن الأول من نوعه، إلا انه الأهم دون شك، فقد استطاع رئيس الحكومة أن يجتذب إليه بمهارة الجزء الأكبر من نواب "نداء تونس" مشكّلا كتلة نيابية تضم 48 نائبا، ليبدأ بعدها في الإعداد لإطلاق حزب سياسي جديد، يقتحم من خلاله الحياة السياسية انطلاقا من العام الجديد.

وعلى الرغم من إعلانه عدم الترشح لأي منصب في الانتخابات المقرر انعقادها أواخر عام 2019، إلا أن هذا لا يعني تخليا منه عن هدف البقاء في السلطة، فالمتابع للشأن التونسي يدرك أن منصب رئاسة الجمهورية، وعلى الرغم من أنه يستند إلى اختيار شعبي انتخابي، إلا أنه لا يحظى بصلاحياتٍ واسعةٍ في إدارة الشأن العام، حيث يهيمن رئيس الحكومة على غالبية المرافق الرسمية، ويتولى من خلالها تسيير الدولة. ويقترن هذا المنصب عادة بالحزب الفائز في الانتخابات النيابية، كما يقوم على بناء تحالفاتٍ تضمن لرئيس الحكومة التمتع بدعم نيابي مريح. ومن هنا، كان سعي رئيس الحكومة الحالي إلى بناء حزب سياسي يطمح، من خلاله، إلى الحفاظ على موقعه الحالي.

في المقابل، كان لموقف حركة النهضة، صاحبة الكتلة البرلمانية الأكبر في تونس، دور حاسم في بقاء يوسف الشاهد رئيسا للحكومة، رافضة مقترحات رئيس الجمهورية الداعية الى سحب الثقة منه، وإقالته من منصبه. وقد دفع هذا الموقف رئيس الجمهورية وحلفاءه (المتشكلين أساسا من اتحاد النقابات ومن بعض لوبيات المال والإعلام) إلى محاولة تحريك الشارع، أداة للضغط السياسي، مستغلين ملفات اجتماعية حارقة، تتعلق بارتفاع الأسعار وقضايا البطالة، لإخضاع رئيس الحكومة، وصولا إلى إطاحته من منصبه.

على الرغم من تلويح الاتحاد العام التونسي للشغل بتنفيذ إضراب عام يوم 17 كانون الثاني الجاري، ومحاولة قوى قريبة من اليسار تحريك الشارع عبر استنساخ نموذج السترات الصفراء الفرنسي (الحمراء في تونس)، إلا أن موقع الحكومة الحالية لم يتأثر كثيرا، وهي التي ضمنت لنفسها دعما برلمانيا واسعا، الأمر الذي دفع رئيس الجمهورية إلى الدعوة إلى انعقاد لقاءات موسعة، تضم القوى الأهم في المشهد السياسي، ونعني بها رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وحليفته حركة النهضة من جهة , والاتحاد العام التونسي للشغل حليف رئيس الجمهورية من أجل إيجاد حل للانسداد السياسي والاجتماعي الحالي. يعود هذا التحرّك العاجل للرئاسة إلى يقينها من فشل التحركات في الشارع التي كانت تراهن عليها القوى الحليفة له، ونعني بها تحديدا حزب نداء تونس (الشق الذي يتزعمه نجل الرئيس حافظ قائد السبسي) واتحاد الشغل وبعض القوى الحزبية الصغيرة التي عجزت عن تجييش الشارع. ويعود هذا الفشل إلى إدراك الرأي العام أن حسم الخلافات السياسية إنما يتم عبر بوابة الانتخابات المقبلة التي ستفرز قيادة جديدة منتخبة، تتولى مسؤولية إدارة الدولة.

وجد رئيس الجمهورية نفسه محاصرا بين رغبته في التخلص سياسيا من رئيس الحكومة الذي جاء به إلى منصبه , ومراعاة التوازنات السياسية في البلاد، بما يعني ضرورة التعامل مع القوى الحزبية الكبرى، لإيجاد توافقاتٍ جديدة، تعيد ترتيب المشهد السياسي، خصوصا أن الوقت الباقي له في منصب الرئاسة ينحسر تدريجيا، وليس أمامه سوى أشهر قليلة لإجراء الانتخابات المقبلة التي قد تطيحه وحزبه نداء تونس خارج السلطة نهائيا.

قد تشهد الأيام المقبلة مزيدا من التصعيد على الواجهة الاجتماعية، من أجل تحسين شروط التفاوض السياسي بين الفرقاء والخروج بصيغة تعايشٍ جديدة، لا تقوم على رابح مهيمن أو خاسر مطلق، فقد أفلحت القوى السياسية التونسية من قبل في الوصول إلى مثل هذه التوافقات بعد أزماتٍ شبيهةٍ، كما حصل سنة 2014، غير أن هذا لا يتم في غالب الأحيان، إلا بإدراك جميع القوى الفاعلة أن أسلوب المغالبة وحسم الصراع عن طريق المعادلة الصفرية التي تضمن هيمنة طرفٍ على آخر أمرٌ غير ممكن في مرحلة الانتقال الديمقراطي التونسي. ويظل الشارع التونسي الطرف الذي يراقب تطور الصراعات السياسية التي تثير انزعاجه أحيانا بسبب عبثيتها، وستكون له الكلمة الحاسمة من خلال الانتخابات المقبلة، لإعادة توزيع مواقع السلطة، ربما قد تغير موازين القوى، وقد تعيد إنتاج القوى المهيمنة نفسها اليوم، وهو الأرجح حسب المؤشرات الحالية.